الهيئة: كلية السياسات العامة
الدكتور سلطان بركات، الأستاذ في كلية السياسات العامة بجامعة حمد بن خليفة

أكدت دولة قطر التزامها بدعم الدول المحتاجة في اجتماع رفيع المستوى عقد من أجل أقل البلدان نموًا، في مدينة إشبيلية على هامش المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية، وجاء هذا التأكيد على أعقاب استضافتها لمؤتمر الأمم المتحدة الخامس المعني بأقل البلدان نموًا والذي عقد في مارس 2023، الأمر الذي يعكس جهود برنامج عمل الدوحة بأقل البلدان نموًا واهتمامه بمصالح هذه الدول. 

ولكن، لا يزال السؤال الأساسي قائمًا: هل ينم هذا الدعم الجلي عن التضامن، أم هو مبادرة دبلوماسية عامة من منظور إنساني؟

إن الهدف من هذا السؤال ليس التهكم أو السخرية، بل محاولة لإظهار الحاجة الملحة لتحليل دور الاقتصاد السياسي في التضامن العالمي وآليات الدعم الدولي في عصر يتسم بانتشار عدم المساواة، وتقليل ميزانيات المساعدات، وتزايد التقلبات الجيوسياسية؛ ويكمن جوهره في التحقق من مصداقية شراكات التنمية العالمية وقدرة قطر على تحمل أكبر قدر من المسؤولية، لا سيما بالنظر إلى الاحتياجات الإنسانية والحاجة المتزايدة لإعادة الإعمار في المنطقة، خاصة في فلسطين، وسوريا، ولبنان.

الموقف التنموي العالمي لدولة قطر: ما بين الاستراتيجية والتضامن

على مدار العقد الماضي، وسّعت دولة قطر بصمتها في التنمية على مستوى العالم بشكل ملحوظ، حيث استثمرت من خلال صندوق قطر للتنمية في مجالات التعليم، والرعاية الصحية، والبنية التحتية، وقدمت المساعدات الإنسانية في العديد من البلدان الأقل نموًا في أفريقيا جنوب الصحراء ودول جنوب آسيا. وتتماشى العديد من هذه المبادرات مع الأولويات الستة لبرنامج عمل الدوحة، وتحديدًا، الشمول الرقمي لتعزيز قدرة هذه البلدان على التكيف مع التغييرات المناخية وتنمية رأس المال البشري.

وعلى الورق، تعكس هذه الجهود التزامًا قويًا بالعمل التنموي، ومع ذلك، فإن بروز دولة قطر وانخراطها في قضايا الدول الأقل نموًا يثير العديد من التساؤلات المهمة. فقد شكّلت استضافة قطر لمؤتمر الأمم المتحدة الخامس المعني بأقل البلدان نموًا في وقت كانت قد تجاوزت الأزمة السياسية الإقليمية وأعادت تقديم نفسها في الساحة العالمية من خلال مونديال قطر لكأس العالم 2022، والذي قدم فرصة قيمة لتعزيز مصداقيتها الدولية. واليوم، تجد قطر نفسها عند مفترق طريقين: أحدهما يؤدي لواحة الدول المانحة ذات الدخل المرتفع والغنية بمصادر الطاقة، والآخر يؤول لمجموعة دول الجنوب العالمي التي كثيرًا ما تعبر عن تضامنها مع تلك الدول. وهذا المفترق المزدوج – الدامج للإيثار والمصالح الجيوسياسية – هو ما يجعل دور دولة قطر جديرًا بالتحليل.

برنامج عمل الدوحة: خارطة طريق أم علامة تجارية؟
تم اعتماد برنامج عمل الدوحة في عام 2023، وهو ليس وثيقة رمزية، بل إطار عمل يمتد لمدة 10 سنوات ويهدف إلى تحقيق أهداف سامية وقابلة للقياس، مثل تقليص الفجوة الرقمية إلى النصف، وزيادة فرص الوصول إلى التعليم، وتحسين التكامل التجاري، وتعزيز القدرة على مواجهة الصدمات المناخية. كما يقدّم البرنامج للبلدان الأقل نموًا رؤية تحوّلية، إذا ما تم تنفيذه بشكل جاد وحصل على تمويل كافٍ. 

إن تعهد دولة قطر في إشبيلية بتقديم 60 مليون دولار أمريكي لدعم تطبيق خطة عمل دبلن أمر يشاد به، ولكن، بدون آليات شفافة لتنفيذ ومراقبة النتائج، فإن مثل هذه المساهمات قد تضيع في النفقات الإدارية العامة، ولوجستيات المؤتمرات، والعقود الاستشارية؛ ويكمن الخطر الحقيقي في السماح باستخدام التعهدات المالية كعملة دبلوماسية، بدلا من كونها أدوات لإحداث تحولات إيجابية. 

كما لا ينبغي اختزال الدعم المقدم للبلدان الأقل نموًا على الظهور الإعلامي أو تنظيم الاجتماعات رفيعة المستوى، بل يجب أن يثمر عن إبرام الشراكات الثنائية بين الدول، ودعم التعاون المؤسسي المباشر، وتعزيز الالتزام القوي بالتنمية الشاملة والشفافة.

مقاييس الالتزام: تفعيل دور المؤسسات القطرية
إذا كانت قطر تنوي إثبات أن برامجها التنموية ليست مجرد واجهة شكلية، فعليها دمج دعمها لبرنامج عمل الدوحة ضمن بنيتها التنموية الوطنية في شتى مؤسساتها الأكاديمية والبحثية المرموقة، لا سيما أن دولة قطر تعتبر واحة استثنائية للتميز البحثي والأكاديمي، وخاصة المدينة التعليمية، حيث توجد جامعة حمد بن خليفة، إحدى الجامعات العالمية الرائدة في مجالات الذكاء الاصطناعي، والاستدامة، والسياسات العامة، والإدارة. وهذه المؤسسات ينبغي أن تساهم بفاعلية في عملية تطبيق البرنامج.

وعلى سبيل المثال، يمكن تصور مخرجات إبرام شراكات بين الجامعات القطرية ونظيراتها في البلدان الأقل نموًا بهدف تحسين مناهج مجال الحوكمة العامة، وتطوير القدرات في الأنظمة الرقمية، أو تصميم مشاريع تسهم في التكيف مع التغييرات المناخية؛ إذ إن مثل هذه الشراكات لا تمنح البلدان الأقل نموًا الإمكانات والأدوات اللازمة لتحديد مساراتها التنموية فحسب، بل تعزز أيضًا دور دولة قطر كجهة مانحة ترتكز على المعرفة ورائدة في التعاون مع دول الجنوب. وهذا النوع من الدبلوماسية المؤسسية القائمة على التعلم والتصميم المشترك، له قيمة تضاهي نماذج المساعدات التقليدية.

إعادة تصور المنظومة التنموية في دولة قطر

وعلى رغم من تميز صندوق قطر للتنمية، إلا أن القطاع الإنساني والتنموي في الدولة لا يزال مركزيًا للغاية ويحد من إشراك جهات فعّالة جديدة في جهود التنمية الدولية، خاصة فيما يتعلق بالمؤسسات الخيرية المستقلة، ومنظمات المجتمع المدني، والمختبرات الأكاديمية التنموية.

ولتحقيق الأهداف المرجوة لبرنامج عمل الدوحة، يتعين على دولة قطر تنويع منظومتها التنموية، ويشمل ذلك تشجيع تأسيس منظمات غير حكومية محلية، وعقد شراكات بحثية، وبناء مؤسسات خيرية هادفة لإثراء هيكل المساعدات الإنسانية في البلاد والسماح بتفاعل أكثر مرونة وابتكارًا مع التحديات التنموية المعقدة.

وقد أظهرت دول مثل النرويج وتركيا أهمية تمكين الأنظمة الخيرية المستقلة إلى جانب المساعدات الحكومية الرسمية. كما بيّنت نماذجهم كيف يمكن للمؤسسات الدينية، ومنظمات الجاليات، ومراكز الابتكار أن تعزز الجهود الرسمية وتقدم أساليب أكثر مواءمة للمجتمع المحلي. ولدى دولة قطر الموارد والكوادر اللازمة لبناء منظومة مماثلة، ويتعين عليها فقط إتاحة المرونة التنظيمية، والإرادة السياسية، والرؤية الإستراتيجية. 

الموازنة بين المسؤوليات الإقليمية والعالمية
لا يمكن فصل التزام دولة قطر تجاه البلدان الأقل نموًا عن مسؤولياتها الإقليمية، فالكوارث الإنسانية المستمرة في فلسطين، وسوريا، ولبنان تتطلب موارد ضخمة ومساعدات طويلة الأمد. وبالرغم من أن هذه الدول لا تندرج رسميًا ضمن قائمة البلدان الأقل نموًا، إلا أن أزماتها تؤثر بشكل مباشر على استقرار المنطقة وعلى السياسات الخارجية القطرية.

ويكمن التحدي الرئيسي في الموازنة بين المسؤوليات الأخلاقية، والسياسية، والإقليمية، والطموحات العالمية. وفي حال تمكنت دولة قطر من مواءمة استراتيجيتها تجاه البلدان الأقل نموًا مع دعمها للانتعاش الإقليمي من خلال البرامج التنموية المتكاملة، والتمويل المبتكر، والشراكات الإقليمية فإن ذلك سيعزز من مصداقيتها ويزيد من كفاءة وفاعلية مساعداتها الخارجية. 

من الأداء إلى الشراكة
اليوم، تقف قطر عند مفترق الطرق فيما يخص انخراطها في برنامج عمل الدوحة، فإما أن تتبع النهج التقليدي القائم على التعهدات رفيعة المستوى، والقمم الرمزية، وروايات الدول المانحة المنضبطة، أو أن تتجه نحو عقد شراكات حقيقية قائمة على الشفافية، وتمكين المجتمعات المحلية، وتحقيق الأثر. ولتحقيق الهدف الآخر، يجب تمكين الجامعات والمؤسسات البحثية القطرية من ريادة التعاون التقني مع البلدان الأقل نموًا. كما ينبغي تشجيع تأسيس جهات خيرية ومدنية جديدة تدعم الجهود الحكومية، وعليه، يجب على الدوحة الالتزام بتقارير شفافة مبنية على النتائج والتقييمات المستقلة وإتاحة البيانات المتعلقة بمدى فاعلية المساعدات. وأخيرًا، يجب موازنة الانخراط مع البلدان الأقل نموًا بالقيادات الأخلاقية في الأزمات الإقليمية، لا سيما حيث تكون الاحتياجات مماثلة أو تفوق تلك الموجودة في البلدان الأقل نموًا.

فالاختبار الحقيقي لالتزام دولة قطر وبرنامج عمل الدوحة ذاته لن يظهر في البيانات الصحفية أو موائد المانحين، بل في حال ما كان بمقدور طفل يسكن بمكان قاحل في منطقة الساحل الحصول على مياه شرب نظيفة؛ أو ما إذا كان بوسع موظف حكومي في إحدى جزر المحيط الهادئ الأقل نموًا استخدام الأدوات الرقمية لتحسين الخدمات؛ أو ما إذا كان بإمكان طالبة في إحدى دول جنوب آسيا الأقل نموًا تلقى تعليمًا جيدًا يفتح أمامها فرصًا سانحة لمدى الحياة.

هذه هي النتائج التي ستحدد نجاح البرنامج ومكانته بالنسبة لدولة قطر. 

نقطة التحول

لا يُعد برنامج عمل الدوحة مجرد خارطة لتمهيد تنمية البلدان الأقل نموًا، بل هو تحدّ أخلاقي للنظام العالمي؛ فهو يدعو الدول مثل قطر إلى تخطي التعهدات، وتحمّل المسؤولية الحقيقية من خلال اتخاذ الإجراءات، وعقد الشراكات، والحفاظ على النزاهة. 

إذًا، هل يمثل انخراط دولة قطر في برامج البلدان الأقل نموًا تعبيرًا عن التضامن، أم هل هو مقصد استراتيجي دبلوماسي؟
ربما الاثنان معًا، ولكن إذا استطاعت قطر المساهمة في انتشال المجتمعات من الفقر، وتمكين المؤسسات في البلدان الأقل نموًا، وتحقيق نتائج ملموسة خلال العقد المقبل، فإن الدوافع، رغم أهميتها، تصبح أقل أهمية من النتائج المحققة. 

ففي عالم تتآكل فيه الثقة تبعًا لتعددية الأطراف وتتسع فيه الفجوات العالمية، يمكن لدولة قطر من خلال التزامها المستمر والشامل والشفاف أن تغدو نموذجًا يُحتذى به؛ ويظل ما ستؤول إليه الأمور هو العامل الحاسم في تحديد ما إذا كانت هذه الآليات هي نقطة التحوّل الحقيقية. 

*هذا المقال من تأليف الدكتور سلطان بركات، الأستاذ في كلية السياسات العامة بجامعة حمد بن خليفة.

* تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفه، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.


الهجوم الإسرائيلي الغادر على قطر … إنذار مبكر لضرورة استشراف المستقبل

02 أكتوبر 2025
لقراءة المزيد

من الفكرة إلى الواقع: وسائل متعددة للتصدي لأوبئة الغد

08 سبتمبر 2025
لقراءة المزيد

ما بعد المساعدات: آفاق الدبلوماسية الإنسانية القطرية

01 يوليو 2025
لقراءة المزيد

رسم مستقبل السياسات التعليمية في قطر

25 يونيو 2025
لقراءة المزيد

من الأزمة إلى النزاعات: نحو نموذج فعّال لإدارة الكوارث العالمية

19 مايو 2025
لقراءة المزيد

الأدوية المزيفة: نذير خطر يغزو العالم

28 أكتوبر 2024
لقراءة المزيد

العمل الخيري في رمضان: نحو تأثير إيجابي يتجاوز مفهوم الصيام

22 أبريل 2024
لقراءة المزيد