الهيئة: كلية السياسات العامة
الدكتورة أسماء الفضالة

في مواجهة عالم مضطرب تتزايد فيه الأزمات العالمية، أثبتت قطر أن التأثير الحقيقي يُبنى على الثقة والعمل المشترك لا على القوة والفرض. إن الهجوم الإسرائيلي الغادر في 9 سبتمبر 2025 الذي جذب الدوحة إلى دائرة الضوء الدبلوماسي ليس سوى أحدث اختبار لاستراتيجية القوة الناعمة التي بُنيت على مدى سنوات. إنه تذكير بأن الدول الصغيرة يمكنها أيضًا أن تشكل الأجندة العالمية عندما تلتزم بالرؤية والمبادئ والاستعداد.

عندما دمّرت جائحة كوفيد-19 أنظمة الصحة حول العالم، تصرفت قطر بسرعة وحسم. ففي أوائل عام 2020، نقلت طائراتها العسكرية أجهزة التنفس الصناعي إلى المستشفيات الإيطالية المنهارة، وحملت طائرات الشحن الأقنعة والإمدادات الطبية إلى عشرات الدول الإفريقية والآسيوية، وبنت مستشفيات ميدانية في لبنان لعلاج المصابين بعد الانفجار في بيروت. لم تكن هذه الجهود مجرد لفتات إنسانية؛ بل كانت خيارًا متعمدًا لإظهار القيادة من خلال السخاء والكفاءة. فهمت الدوحة أنه في عالم مترابط، لا تحترم الأزمات الحدود، وأن التضامن يكسب ثقة لا يمكن للقوة العسكرية أن تحققها.

وقد طبعت هذه الفلسفة نفسها أيضًا على نهج قطر في الوساطة. فعلى مدى العقد الماضي، استضافت الدوحة بهدوء محادثات بين أطراف رفضت الاجتماع في أي مكان آخر. من مفاوضات طالبان والولايات المتحدة عام 2020، إلى جهود وقف إطلاق النار في السودان واليمن، والتنسيق الإنساني لغزة، لم تكن هذه سوى أمثلة قليلة. وغالبًا ما تجري هذه المفاوضات خلف الأبواب المغلقة، بعيدًا عن الأضواء، لأن دبلوماسي قطر يدركون أن السرية والصبر والثقة هي رموز النجاح. إنها استراتيجية متجذرة في التواضع وفهم أن النفوذ يصبح أقوى عندما يُمارَس بمسؤولية.

الاستثمار في التعليم والثقافة

وتحكي استثمارات قطر في التعليم والثقافة القصة ذاتها. فقد كشف استضافتها لكأس العالم 2022، رغم الانتقادات الشديدة، عن استعدادها للمخاطرة من أجل جمع الشعوب. وأصبحت المدينة التعليمية في الدوحة، التي تضم فروعًا لجامعات عالمية، مركزًا يجتمع فيه الشباب من كل القارات لمناقشة الأفكار التي ستشكل المستقبل. كما تحوّل منتدى الدوحة إلى منصة رئيسية لمناقشة قضايا حوكمة الذكاء الاصطناعي والصحة العالمية وبناء السلام. وقد أظهرت أحداث 9 سبتمبر 2025، بما حملته من توترات إقليمية تتخطى حدود قطر، مدى أهمية هذه الاستثمارات؛ ففي عالم يزداد انقسامًا، تظل المنصات الآمنة للحوار موردًا نادرًا، وتبقى الدول التي توفرها عنصرًا لا غنى عنه.

قيادة قطر تمتد إلى مؤسساتها الأكاديمية ومجتمعها المدني، حيث يتكامل الجميع في تحقيق رؤيتها العالمية. في كلية السياسات العامة بجامعة حمد بن خليفة، يُدرَّب الطلاب على أكثر من مجرد تحليل المشكلات؛ بل يتأهلون لحلّها تحت الضغوط وبمنتهى المسؤولية. حيث تتضمن المناهج محاكاة لأزمات عالمية حقيقية، مثل أوبئة تُربك سلاسل الإمداد، وتقنيات ذكاء اصطناعي تُغيّر أسواق العمل، ومواجهات جيوسياسية تتطلب دبلوماسية دقيقة وحسن تقدير. فصناعة السياسات هنا ليست مجرد حفظ للأطر النظرية، بل ممارسة للمرونة، وتعزيز للتعاطف، وبُعد نظر يُؤهلهم لاتخاذ قرارات مصيرية في أوقات الشدّة.

إعداد القادة 

يتوافق تركيز قطر على إعداد القادة مع استراتيجيتها الأوسع للقوة الناعمة؛ فبينما يسهُل إرسال طائرات المساعدات أو استضافة القمم، يبقى التحدي الحقيقي في تهيئة جيل قادر على مواصلة هذا النهج بعد أن تخبو العناوين. ولا تقتصر كلية السياسات العامة على تعليم الطلاب القطريين فحسب، بل تجمع أيضًا أصواتًا من الخليج العربي وإفريقيا وآسيا وأوروبا، ليعود هؤلاء القادة الشباب إلى بلدانهم بفهم عميق لنهج قطر في الدبلوماسية وشبكة من الزملاء قد يصبحون يومًا وزراء أو مفاوضين أو رؤساء دول. وبهذه الطريقة، تستثمر قطر في مستقبل قائم على التعاون المستند إلى الخبرة المشتركة والاحترام المتبادل. إن تعليم مهارات السياسات العامة يتجاوز حدود القاعات الدراسية ليصبح التزامًا حقيقيًا تجاه المستقبل؛ فالمهارات والقيم التي يكتسبها الطلاب اليوم ستتحول غدًا إلى قرارات وسياسات تؤثر في حياة الملايين، وتُسهم في تعزيز الاستقرار الإقليمي والدولي. وهذا يؤكد أن الاستثمار في التعليم وصناعة السياسات ليس رفاهية فكرية، بل ركيزة أساسية لدور قطر في بناء عالم أكثر تعاونًا وإنصافًا.

التحديات المستقبلية 

إن التحديات المقبلة هائلة. فالذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل أسواق العمل العالمية، بما يحمله من فرص ومخاطر عدم المساواة. ويمكن لحملات التضليل أن تزعزع استقرار الحكومات وتفتت المجتمعات بين ليلة وضحاها. ويهدد تغيّر المناخ الأمن الغذائي وإمدادات المياه في بعض أكثر المناطق هشاشة في العالم. ويزداد المشهد الجيوسياسي استقطابًا يومًا بعد يوم، حيث تضغط منافسات القوى الكبرى على الدول الصغيرة. ومع ذلك، يشير سجل قطر إلى أنها سوف تتنقل بين هذه التحديات ببراغماتية وإبداع. فمن خلال استثمار عائدات الغاز الطبيعي المسال في مشاريع مستدامة للطاقة الخضراء والتعليم، فإنها تتهيأ ضد مستقبل أقل اعتمادًا على الهيدروكربونات. ومن خلال استمرارها في الوساطة بهدوء ومصداقية، تبني علاقات لا يمكن شراؤها أو فرضها.

يعطي حدث 9 سبتمبر درسًا للمجتمع الدولي. فالقوة الناعمة ليست هيمنة، بل شراكة. وقد أظهرت قطر أن الأصالة الثقافية والتعاون العالمي يمكن أن يتعايشا. وفي أعقاب الهجوم الصاروخي على الدوحة في 9 سبتمبر 2025، عبّرت قطر بوضوح عن غضبها ورفضها القاطع لأي اعتداء على سيادتها، مؤكدة في الوقت ذاته التزامها بحماية شعبها والدفاع عن أمنها الوطني. ورغم حدة الموقف، شددت الدوحة على أن ردّها سيكون محسوبًا ومسؤولًا، يجمع بين الحزم والدعوة إلى تحمّل المجتمع الدولي لمسؤولياته. إن هذا التوازن بين الغضب المشروع وضبط النفس يعكس فلسفة قطر الراسخة: أن القيادة الحقيقية تظهر في أصعب اللحظات، حيث يمكن تحويل الأزمات إلى فرص لتعزيز الحوار والبحث عن حلول عادلة.

بالنسبة للجمهور القطري والمحلي، تمثل هذه التطورات أكثر من مجرد سياسات خارجية. إنها تذكير بما تمثله بلادهم في السخاء خلال الأزمات، والشجاعة في الحوار، والاستثمار في المعرفة.

في قرن يتسم بعدم اليقين، تثبت قطر أن القيادة لا تُقاس بالقوة العسكرية أو الحجم الاقتصادي وحدهما. تُقاس بالرؤية، والتعاطف الإنساني، وبناء القدرات. من الجسور الجوية أثناء الجائحة إلى الاختراقات الدبلوماسية، ومن محاكاة الفصول الدراسية إلى المنتديات العالمية، تقدّم قطر للعالم نموذجًا مختلفًا للتأثير، نموذجًا يحوّل الثقة إلى فعل، ويُظهر أن الدول الصغيرة تستطيع أن تقود بالمثال. ومع تصاعد التحديات العالمية، قد يكتشف العالم أن ما تبنيه قطر بهدوء في قاعات محاضراتها وغرف مفاوضاتها قد يكون أهم مما تنقله أي عناوين.

*هذا المقال من تأليف الدكتورة أسماء الفضالة، أستاذ مساعد بكلية السياسات العامة في جامعة حمد بن خليفة.

*تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفه، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.


الهجوم الإسرائيلي الغادر على قطر … إنذار مبكر لضرورة استشراف المستقبل

02 أكتوبر 2025
لقراءة المزيد

دور دولة قطر في تطوير البلدان الأقل نموًا: هل هو تضامن أم مصالح استراتيجية؟

01 أكتوبر 2025
لقراءة المزيد

من الفكرة إلى الواقع: وسائل متعددة للتصدي لأوبئة الغد

08 سبتمبر 2025
لقراءة المزيد

ما بعد المساعدات: آفاق الدبلوماسية الإنسانية القطرية

01 يوليو 2025
لقراءة المزيد

رسم مستقبل السياسات التعليمية في قطر

25 يونيو 2025
لقراءة المزيد

من الأزمة إلى النزاعات: نحو نموذج فعّال لإدارة الكوارث العالمية

19 مايو 2025
لقراءة المزيد

الأدوية المزيفة: نذير خطر يغزو العالم

28 أكتوبر 2024
لقراءة المزيد