يمثل التقدم الملحوظ الذي تحرزه دولة قطر نحو تحقيق أهدافها المذكورة في رؤية قطر الوطنية 2030، دليلًا واضحًا على أن التعليم قد أصبح أحد أهم الأساسيات الرئيسية لإحداث تغييرات إيجابية اجتماعية واقتصادية في الدولة. ويعد الإصدار الجديد من كتاب "مستقبل السياسات التعليمية في دولة قطر"، الذي يمكن الحصول عليه مجانًا، محاولة لتوثيق هذه الرحلة الطويلة والتطرق للتساؤلات والفرضيات الحالية. كما يجمع الكتاب بين الخلاصة البحثية للأكاديميين العالميين والخبرات العريقة للممارسين المختصين الذين يتصدون لهذه التحديات بشكل يومي، ويستعرض الكتاب عقدين من الإصلاحات الشاملة، والتوسع، والمستجدات في مجال التعليم، وتأتي هذه التحولات استجابة للمتطلبات المتغيرة في القطاع التعليمي في وقت يُعيد فيه العالم والدولة تشكيل مستقبلهم وفقًا للتغيرات السكانية، والتطورات التكنولوجية، والمخاطر البيئية.
كما يكشف كل فصل من فصول الكتاب عن نقاط مشتركة تعكس ضرورة التوفيق بين الطموح العالمي، والانتماء، والتمسك بالهوية المحلية. ولا شك في دور الشراكات الدولية في إثراء المناهج الدراسية، وتطوير الكفاءات الأكاديمية، وتعزيز القدرات البحثية؛ ولكن، في حال لم يتمكن الطلاب من توطين هذا العِلم ضمن السياق الثقافي القطري، فإن العائد المجتمعي سيظل محدودًا؛ وعليه، يجب على السياسات المستقبلية أن تُعد خريجين منفتحين على العالم ومتمسكين بقيمهم وثقافتهم المجتمعية.
ويؤكد الكتاب على أن تحقيق النتائج التعليمية المنشودة لا يتعلق فقط بتحسين جودة المناهج، بل يتطلب أيضًا توسيع فرص التعلم لتكون شاملة لكل فئات المجتمع؛ فضلًا عن تعزيز مبدأ التعلم مدى الحياة وخارج نطاق المؤسسات التعليمية الرسمية، ويشمل ذلك إتاحة التعليم للأطفال من ذوي الإعاقة والقدرات المتنوعة وتحسين جودة برامج الطفولة المبكرة.
ويُعد مجال التعليم قطاعًا بحاجة للتكيّف والمراجعة بشكل دائم ومستمر. وقد وثّق الكتاب رحلة قطر نحو هذا التوجه وتضمن تطلعاتها المستقبلية، خصوصًا في ظل التطورات المستمرة في مجالات الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا التعليم. وبينما تتكيف الدولة مع المشهد التعليمي المتغير، ينبغي أن يُنمي نظامها التعليمي المهارات الأساسية التي تتصدى للتغيرات الظرفية، مثل: التفكير النقدي، والابتكار، والنزاهة، والمرونة؛ وعليه، فإن السياسات التعليمية لن تكون فعّالة إلا عند توافقها مع استراتيجيات التوظيف، والصحة، والرفاهية الاجتماعية، ويرجع ذلك إلى أن نتائج التنمية الإنسانية لا تنتج فقط من التعليم، بل هي نتاج التفاعل المتداخل بين المجالات المختلفة، ويستدعي هذا التداخل المعقد دورًا أوسع للأوساط الأكاديمية، وتنسيقًا أقوى بين الوزارات، وحوارًا أعمق مع القطاع الخاص، إضافة إلى آليات تغذية راجعة منظمة لضمان التعديل المبكر للبرامج قبل أن تنجرف عن الاحتياجات الأساسية.
كما يقترح الكتاب أربع أولويات رئيسية: أولها، توسيع مسارات التعلم مدى الحياة من خلال توفير التعليم للكبار، وتطوير المهارات المهنية، وإعادة تأهيل العاملين بشكل يعزز قدرتهم على التكيف مع التسارع الصناعي المتغير. ثانيها، تعزيز مكانة مهنة التعليم من خلال الاستثمار في التطوير المهني المستمر للمعلّمين وتقدير الابتكارات في أساليب التدريس. ثالثها، إبرام شراكات بحثية قوية بين الجامعات والقطاع الصناعي لتسريع الابتكار بما يتماشى مع الأهداف الوطنية وأولويات التنمية المستدامة. وأما آخرها فهو بناء نظم حوكمة تمكّن المجتمع المدني من المشاركة الحقيقية في التغيير وزيادة نسبة الشفافية في صنع السياسات ونتائجها.
ويؤكد الكتاب على أنه لا ينبغي النظر إلى التعليم على أنه محرّك للتنويع الاقتصادي فحسب، بل هو قوة شاملة لتعزيز التماسك المجتمعي وتجديد الحياة المدنية، ولتحقيق ذلك يتعين إجراء إصلاحات شاملة، وغرس روح الفضول والابتكار، وضمان شعور الخريجين بأنهم فاعلون في عملية التقدم المحلي ومشاركون في الحوار العالمي. وأن دولة قطر قادرة على بناء نظام تعليمي مرن ومبدع، وبوسعه مواكبة التحديات المعاصرة ورسم آفاق جديدة للأجيال القادمة.
* شارك في كتابة هذا المقال كل من: الدكتورة عصمت زيدان، الأستاذ المشارك والعميد المشارك لشؤون الطلاب بجامعة حمد بن خليفة، والدكتور إفرين توك، العميد المساعد لمبادرات الإبداع والتقدم المجتمعي في جامعة حمد بن خليفة، والدكتورة أسماء الفضالة، الأستاذ المساعد في كلية السياسات العامة بجامعة حمد بن خليفة، والدكتور لوجان كوكران، الأستاذ المساعد في كلية السياسات العامة بجامعة حمد بن خليفة.
* تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفيه، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكتّاب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.
أخبار مشابهة