نحو تأثير إيجابي يتجاوز مفهوم الصيام | كلية السياسات العامة

العمل الخيري في رمضان: نحو تأثير إيجابي يتجاوز مفهوم الصيام

22 أبريل 2024

بقلم: الدكتورة عصمت زيدان

توضح الدكتورة عصمت زيدان كيف تتجلى المسؤولية الاجتماعية في رمضان بأشكال مختلفة حول العالم.

يحفَل شهر رمضان بالمعاني الروحانية العميقة، حيث يمثل وقتًا للتأمل والصلاة والتآخي بين المسلمين، على وجه الخصوص، في جميع أنحاء العالم، وتبرز فيه قيمٌ مجتمعية جوهرية، أهمها العطاء ومساعدة المحتاجين، وتتجلى روح المسؤولية الاجتماعية في هذا الشهر بأشكال عديدة، بدءًا من الأنشطة الفردية إلى الجهود الخيرية المنظمة، حيث تنظم المساجد والمراكز المجتمعية حملات لتوزيع الطعام وجمع التبرعات وغيرها من البرامج التطوعية، ومن خلال هذه الجهود، يصبح شهر رمضان وسيلةً لإحداث تأثير اجتماعي إيجابي يوحّد الناس، أينما جاؤوا وحلّوا، في مهمة مشتركة أساسها التعاطف وتقديم الدعم، وبينما نستكشف الطرق الجمة التي يُحدث بها هذا الشهر الفضيل فرقًا يتجاوز عبادة الصيام، يتبيّن لنا أيضًا الأثر الدائم للروح التي يبثّها شهر رمضان في المجتمعات حول العالم.

المبادرات التطوعية والمشاريع الإنسانية

من خلال أنشطةٍ تتنوع بين توزيع المواد الغذائية وحملات النظافة وغيرها، يشهد شهر رمضان تضافرًا للجهود في المجتمعات حول العالم لتنفيذ شتى المشاريع الإنسانية والأنشطة التطوعية، فعلى سبيل المثال، تركز منظمات، مثل منظمة الإغاثة الإسلامية، ومنظمة العون الإسلامي، جهودَها على تقديم المساعدات الطبية وتوزيع الطرود الغذائية على المناطق المتضررة من الأزمات، وغالبًا ما تكون هذه الأنشطة مفتوحة للمسلمين وغير المسلمين، مما يسهم في توثيق الروابط المجتمعية وتعزيز التفاهم والاحترام بين الثقافات والأديان، وأحد أبرز الأمثلة على المبادرات التطوعية خلال شهر رمضان مبادرة (Give 30) في كندا، وهي مبادرة سنوية تشجع الأفراد على التبرع بالمال، بما يعادل قيمة ما تم توفيره من الصيام، لبنوك الطعام في مجتمعاتهم المحلية، وقد انطلقت هذه المبادرة أولًا في تورنتو، ثم توسعت لتشمل بنوك الطعام في جميع أنحاء البلاد.

ومن الأمثلة المهمة الأخرى مبادرة "مشروع رمضان" التي أطلقها مركز رعاية المسلمين، والتي تحشد المتطوعين من مختلف الأديان لتجميع وتوزيع سلال الطعام على الأسر المحتاجة في مناطق مثل اليمن وسوريا، ومن الفعاليات الأخرى التي تجمع بين الأديان المختلفة فعالية "الإفطار الجماعي الكبير" في برمنغهام في المملكة المتحدة، والمشاريع البيئية التي يقودها متطوعون في العاصمة الإندونيسية جاكرتا، والتي تدمج بين التعبد الديني والمسؤولية المدنية، وفي اليوم الحادي والعشرين من الشهر الفضيل، حطمت مبادرة مشتركة بين المجتمعيْن المسلم والمسيحي الرقم القياسي لأطول مائدة عشاء مجتمعية في بلجيكا، حيث بلغ طولها كيلومترين، كما شارك الآلاف من سكان مدينة أنتويرب في فعالية مشتركة بين الأديان تزامنت مع عيد الفصح، وأعلنت المبادرة عن تبنّيها لسياسة عدم إهدار النفايات وشجعت المشاركين على الاستفادة من تزامن الأعياد المختلفة وانتهاز الفرصة للتعرف على الثقافات والأديان الأخرى. ولا تتصدى هذه الجهود الجماعية لمشاكل انعدام الأمن الغذائي فحسب، بل تُظهر أيضًا قوة العمل الجماعي وروح العطاء والتفاني في رمضان، والتي تتجاوز الحدود الثقافية والدينية.

وعلى الصعيد المحلي، تدعم دولة قطر القطاع التطوعي من خلال توفير الدعم اللوجستي والتسهيلات التنظيمية للأنشطة الخيرية، كما تقدم الخيام الرمضانية التي تدعمها الشركات والأفراد وجباتٍ مجانية تجسّد روح التآلف المجتمعي والكرم، ومن جانبها، تواصل جمعية الهلال الأحمر القطري تقديم المساعدات الإنسانية داخل البلاد وخارجها، وبهذا تعكس برامج المشاركة المجتمعية المتنوعة في دولة قطر خلال شهر رمضان التزامًا وطنيًا وثيقًا ببناء مجتمع متلاحم من خلال مزيج من التقاليد العريقة والكفاءة التنظيمية الحديثة.

المؤسسات الخيرية وحشد المجتمعات المحلية

يشهد شهر رمضان أيضًا قيام المؤسسات الخيرية في جميع أنحاء العالم بتوسيع نطاق أنشطتها مما يترجم إلى زيادة في التبرعات، وغالبًا ما تكون هذه الأنشطة مصحوبة بحملات توعية عامة تُسلط الضوء على مجموعة من القضايا الاجتماعية التي تؤثر على المجتمعات الفقيرة، وعلى سبيل المثال، يقدم برنامج "إطعام عالمنا" التابع لمؤسسة "بيني أبيل" ومقره المملكة المتحدة، وجبات يومية للمحتاجين، باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتوثيق أعماله ومشاركتها، وبالتالي استقطاب المزيد من تلك المساهمات. وبالمثل، تستخدم مؤسسة الزكاة في إندونيسيا الحملات الممنهجة عبر الإنترنت على نطاق واسع لجذب الدعم العالمي لبرامجها التعليمية ومشاريع المياه النظيفة.

ويتم تعزيز المبادرات الخيرية في دولة قطر من خلال تحالف متناغم بين المؤسسات والدولة والمجتمع، وبتوجيه من الحكومة القطرية، تقدم (قطر الخيرية) خدمات واسعة النطاق لتوزيع المواد الغذائية ومستلزمات الرعاية الصحية داخل وخارج البلاد، حيث يتم توسيع حملتها الرمضانية بشكل أكبر من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والمشاركة الرقمية، مما يُشجع على استقطاب أعداد أكبر من الجمهور. وبالمثل، تستخدم جمعية الهلال الأحمر القطري المنظومة الإلكترونية لتعزيز الوعي وتسليط الضوء على أنشطتها خلال الشهر الفضيل، حيث يُسلط هذا المزيج الحيوي من الأعمال الخيرية التقليدية والوسائل التكنولوجية الحديثة الضوء على القوة الهائلة لروح العطاء في شهر رمضان، ومن خلال المشاركة المبتكرة بين الأساليب التقليدية والتكنولوجية، فإن هذه الجهود لا تلبي الاحتياجات الطارئة فحسب، بل تمهد الطريق أيضًا للتنمية المستدامة والتأثير المجتمعي الإيجابي طويل الأمد.

التأثير بعد رمضان

يمتد الإرث الدائم للخدمات والأعمال الخيرية التي تم تطويرها طوال شهر رمضان إلى ما بعد الثلاثين يومًا، مما يُشكل روحًا استثنائية راسخة من الأعمال الإنسانية والمسؤولية الاجتماعية، حيث أن إطلاق المبادرات والحملات المتتابعة في هذا الوقت تُظهر مدى قوة إسهامات المجتمع، وتُبرز التأثير الدائم والهادف للأنشطة الخيرية في شهر رمضان، وهذا في حد ذاته يثبت أن بذور النوايا الحسنة التي يتم زراعتها خلال الشهر الكريم تنتج تحولات إيجابية دائمة، فضلًا عن أن التركيز على خدمة المجتمع وتعزيز الأعمال الخيرية تكفل الدعم المشترك للتغلب على التحديات المجتمعية، لتصبح هذه الحركة القوية والمؤثرة دعوة واضحة لكل مجتمع للاعتراف بالقدرات المتعددة للأفراد والجماعات التي تتجاوز الحدود الزمنية لشهر رمضان.

وبالتأمل في الآثار الاجتماعية الأشمل لشهر رمضان، نجد أنه يتجاوز الاحتفاء التقليدي به ليعطي مثالًا واقعيًا مؤثرًا على كيفية ترجمة المفاهيم الروحية العميقة إلى خدمات مجتمعية ملموسة. وهكذا، فإن هذا الشهر هو أكثر بكثير من مجرد شهر للامتناع عن الأكل والشراب، بل هو وسيلة قوية للتغيير الإيجابي في المجتمع، ويسلط الضوء على قدرة الروح الإنسانية الجماعية المشتركة ليس فقط على مواجهة التحديات متعددة الأوجه التي تواجه المجتمعات في مختلف أنحاء العالم، ولكن أيضًا للتخفيف من حدتها.

ومع تركيزه المتأصل على العمل الخيري وخدمة المجتمع، يشكل إرث شهر رمضان تحديًا منطقيًا لطبيعة الأعمال الخيرية الحديثة التي تتسم بالسرعة، ما يتطلب إعداد نموذج أكثر استدامة للعمل الإنساني. وبالتفكير في الدروس المستفادة لشهر رمضان، نرى أنه يدفعنا لإعادة تعلم إنسانيتنا المشتركة، وفي ضوء ذلك، لا يمكن القول إلا أن رمضان لا يمنحنا وقتًا للتأمل فحسب، بل يُساهم في بناء عالمٍ أكثر تعاطفًا وإنصافًا وشمولية وترابطًا.

*الدكتورة عصمت زيدان أستاذة مشاركة في كلية السياسات العامة بجامعة حمد بن خليفة.

*تم تقديم هذا المقال من قبل إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة نيابة عن مؤلفته، والأفكار والآراء الواردة في المقال تعبر عن مؤلفته ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.