تخيّل أنك تجلس على مائدة العشاء على أمل قضاء وقت عائلي مميز، ولكن جميع أفراد الأسرة منشغلون بتصفح الإنترنت على هواتفهم المحمولة، أو يرسلون رسالة، أو يشاهدون مقاطع الفيديو، إذ باتت الشاشات الرقمية من هواتف ذكية، وأجهزة لوحية، وحواسيب محمولة، وتلفزيونات جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية. إنها أدوات مذهلة قرّبت المسافات وأتاحت آفاقًا جديدة للتواصل، إلا أنها في الوقت نفسه تحمل في طياتها تحديات جديدة، لا سيما للأسر التي تجاهد للحفاظ على روابط أسرية متينة. وأما بالنسبة للوالدين، فلقد أصبح التعامل مع التكنولوجيا بمثابة خوض معركة طاحنة بين الحرص على مواكبة أحدث المستجدات العصرية والحذر من أن تصبح سببًا في تفكك الأسرة.
ويتعرض الأطفال حاليًا بشكل مستمر للشاشات، وفي كثير من الأحيان يتجاوز الأمر كونه مجرد عادة، فإذا لاحظت أن أبناءك يخفون معلومات تتعلق باستخدامهم للأجهزة الرقمية، أو يطلقون العنان لغضبهم عند إلزامهم بالحدّ من استخدامها (وخاصة الألعاب الإلكترونية متعددة اللاعبين)، أو إذا تراجعت إنجازاتهم الدراسية وأصبحوا يتجنبون التفاعل الاجتماعي، فإن هذه علامات تدل على اقترابهم من الإدمان الرقمي.
ووفقًا لدراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية في عام 2022 شملت 280 ألف مراهق من 44 دولة، فإن 11% من المراهقين أظهروا أعراض تنم عن الاستخدام السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي، ولقد بلغت هذه النسبة بـ 7% فقط قبل أربع سنوات. كما كشفت الدراسة أن الفتيات (13%) أكثر تأثرًا من الفتيان (9%). وأظهرت دراسة أخرى شملت 31 دولة أن معدل إدمان الإنترنت بين الشباب يقارب 6%، ويصل في بعض الدول مثل كوريا الجنوبية إلى 30%.
وعليه، فإن النتائج المترتبة على هذا الوضع مقلقة للغاية. فقد أظهرت الدراسات أن الإفراط في استخدام الشاشات يرتبط ارتباطًا وثيقًا مع ارتفاع معدلات الاكتئاب، والقلق، وأفكار الإقدام على إيذاء النفس؛ فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسة في تايوان أن المراهقين المدمنين على الإنترنت كانوا أكثر عرضة للتفكير في الانتحار بعد عام من بدء الدراسة. واجتماعيًا، يقضي الأطفال وقتًا أقل في التواصل المباشر مع أقرانهم، ما يعزز من شعورهم بالعزلة رغم "تواصلهم معهم" عبر الإنترنت، وغالبًا ما يؤثر ذلك سلبًا على تحصيلهم الدراسي نتيجة تشتت تركيزهم بين الدراسة والشاشات. وهنا يدق ناقوس الخطر ويجب على الأسر التدخل ومساعدة أبنائهم في استعادة التوازن.
نعمة ونقمة
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي حاضرة في كل مكان؛ إذ يستخدمها 95% من المراهقين بين 13 و17 عامًا، ويقوم ثلثاهم بتصفحها يوميًا، في حين يقضي الثلث الآخر وقتًا طويلاً على هذه المنصات. وتعتبر المنصات مثل إنستغرام، وتيك توك، وسناب شات أدوات ممتعة للتعبير والترويح عن النفس والتواصل مع الآخرين، ولكنها في الوقت نفسه مصممة لجذب الانتباه وإطالة مدة الاستخدام، إذ تُغذّي الخوارزميات المستخدم بمحتوى مخصص له، وبالتالي يصعب عليه التوقف عن التصفح. كما توضح الأبحاث أن الإفراط في استخدام وسائل التواصل يمكن أن يؤدي إلى زيادة القلق، والاكتئاب، والتوتر خاصةً لدى المراهقين. وقد تتيح هذه المنصات المجال للتنمّر الإلكتروني، والمخاوف المتعلقة بصورة الجسم، والأرق بسبب التصفح الليلي أو وهج الشاشات.
ويُشكّل هذا تحديًا حقيقيًا للأسرة، حيث يبدي الأبناء اهتمامًا أكبر لعالمهم الافتراضي بدلًا من تخصيص بعض الوقت للأشخاص الجالسين أمامهم. حينها تتحوّل مائدة العشاء إلى جلسة صامتة يحدّق فيها الجميع في شاشاتهم، ويشعر فيها الوالدان بأنهم يتنافسون مع "المؤثرين" لجذب انتباه أبنائهم. ولكن لا يزال هنالك بصيص أمل، فوسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تدل الأبناء على مجتمعات داعمة، بما في ذلك منتديات الصحة النفسية. ويكمن السر هنا في الموازنة والاستفادة منها دون الانجرار إلى هاوية الإدمان.
الذكاء الاصطناعي: اليد الخفية وراء الشاشات
يلعب الذكاء الاصطناعي دورًا متناميًا في تشكيل تفاعلنا مع الشاشات، وهو ما يحدث فارقًا حقيقيًا في حياة الأسر. فخوارزميات اليوتيوب والإنستغرام، على سبيل المثال، ترصد ما يلفت انتباهك وتستمر في تزويدك بالمزيد منه، ويرجع الفضل كله للذكاء الاصطناعي، قد تكون هذه التقنية مذهلة ومميزة، ولكنها تساهم أيضًا في تفاقم حدة الإدمان الرقمي من خلال جر المستخدمين إلى دوامة يصعب كسرها. ولدى المراهقين، قد يؤدي ذلك إلى تفاقم المشكلات مثل تدني احترام الذات أو اضطرابات الأكل.
ولكن الذكاء الاصطناعي قد يكون أيضًا جزءًا من الحل، إذ تعمد بعض التطبيقات لاستخدام أساليب مستوحاة من العلاج النفسي لمعالجة إدمان الألعاب الإلكترونية. إلا أن الخبراء يحذرون من أن أدوات الذكاء الاصطناعي المخصصة لمراقبة المحتوى ليست دائمًا دقيقة وتثير العديد من المخاوف بشأن الخصوصية واستهداف المستخدمين بشكل غير منصف، لذا يتعين على الأسر التعامل بحذر ووعي مع هذه الأدوات.
آفاق واعدة للأسر المسلمة
تشعر الأسر المسلمة بأن العصر الرقمي يشكّل اختبارًا حقيقًيا للإيمان والترابط العائلي، فالشاشات قادرة على جرف الأبناء بعيدًا عن القيم الجوهرية كالانتماء للأمة وتقوى الله. كما تشير دراسات أُجريت في دولة قطر إلى أن قرابة 30% من المراهقين يواجهون صعوبات تتعلق بإدمان الإنترنت، وغالبًا ما يكون ذلك بسبب ضعف العلاقات الأسرية أو البيئة المدرسية. ويزداد الأمر سوءًا حين تُشتّت هذه الشاشات انتباه المستخدمين عن أداء الصلاة أو عندما تعرض محتويات تتعارض مع القيم الإسلامية. ويكمن الحل في التشبث بالإيمان.
وللوالدين دور متكامل في توجيه الأسرة بالمحبة، والإيمان، والاعتدال. فالأب، كما وصفه النبي ﷺ في صحيح البخاري، راعٍ لأسرته بالقدوة، والانضباط، والتقوى. وفي العالم الرقمي، يعني ذلك أن يبين الأب لأبنائه آلية استخدام التكنولوجيا بحكمة، من خلال مشاركته التطبيقات الإسلامية أو تقليل استخدامه الشخصي للشاشات وجعل الأولوية لعائلته. كما ينبغي أن يُجري الأب محادثات صريحة حول مخاطر الإنترنت ومحتوياته الضارة، بلطف وحزم، لتعليم الأبناء كيفية تقييم المحتويات بما يتوافق مع القيم والشرائع الإسلامية، وبإمكانه أيضًا تخصيص أوقات خالية من التكنولوجيا كأداء الصلاة في جماعة أو القيام بأنشطة في الهواء الطلق لتقوية الروابط العائلية والحفاظ على تماسكها.
أما الأم، فهي قلب العائلة، ترعى أفراد أسرتها بالحنان والحكمة وتهيّئ بيئة آمنة ومنفتحة يشعر فيها الأطفال بالراحة لمناقشة التحديات التي يتعرضوا لها في العالم الرقمي، مثل التنمر الإلكتروني أو ضغوط وسائل التواصل، إضافة إلى توجيهها لهم نحو الاعتدال من خلال وضع ضوابط لطيفة، مثل حظر استخدام الهواتف أثناء تناول الطعام وتعزيز العبادات الروحية، مثل قراءة القرآن أو ذكر الله سوية. وتؤدي الأم دورًا رئيسيًا في بناء القوة النفسية للأبناء وتمكينهم من إدراك الآثار المترتبة على الإدمان الرقمي عبر الاستماع لآرائهم والدعاء لهم بالثبات والهداية.
كما يجب أن يتعاون الوالدان وأن يعملا معًا لتمثيل القيم الإسلامية وتحقيق توازن بين الحزم والعطف. ويتعين أن يوجّها أبنائهما، ويعززا القواعد الأخلاقية التي يتعين الالتزام بها، ويقدما نموذجًا يوضح الاستخدام السليم للتكنولوجيا، وأن يضعا الإيمان في المقام الأول، ومن خلال الالتزام بالصلاة الجماعية، وعقد جلسات عائلية، والتفاعل مع المجتمع المحلي، والمشاركة في أنشطة المسجد، لتعليم أبنائهم أن الترابط الحقيقي، يكمن في حب الله سبحانه وتعالى وحبهم لأسرتهم، وهو أهم وأعمق من أي تواصل رقمي، فالأمر يتعلق بالتواجد، والنية الصادقة، والعمل المشترك لتنشئة جيل متمسك بإيمانه وقادر على مواكبة العصر.
*هذا المقال من تأليف الدكتور وحدة قورماز، أستاذ طب الأطفال والمراهقين وعلم النفس المعرفي والتنموي في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة.
* تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفه والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.