الهيئة: كلية الدراسات الإسلامية
فهد خان

لا تعتبر الخوارزميات مجرد مساعدات ساكنة تعمل في الخفاء؛ فهي تشكّل بفاعلية طريقة تفكيرنا، ونظرتنا للأمور، وتقييمنا لأنفسنا. وإن الوعد بتخصيص موجزات الأخبار، والتوصيات المختارة بعناية، والصفحات "المخصصة لك" اللانهائية، مبني على فرضية أن بوسع الآلات التنبؤ بما نفضله أكثر منا، ويترتب على ذلك تضحيات معرفية، ونفسية، وروحية.

بنية التفاعل 

تعتمد أنظمة التوصية على مخازن ضخمة من البيانات السلوكية كالنقرات، والتوقفات، والاعجابات، والمشتريات، بحيث يصبح كل إجراء نتخذه جزءًا من نموذج تنبؤي لا يكتفي بالملاحظة فحسب، بل يشكّل السلوك بشكل خفي. وقد أظهرت بحوث التعلم المعزز منذ مدة أنه يمكن تشكيل السلوك عبر جداول منظمة من المكافآت. وفي البيئات الرقمية، تشبه هذه الجداول مكافآت القمار وتبرز على شكل إعجاب، أو صمت، أو أحيانًا سيلًا من الردود.

وينص العلم العصبي بوضوح على أن إفراز الدوبامين يعزز من الرغبة في العودة، وتتميز هذه المنصات الرقمية بتسريع وتضخيم هذا التعزيز. وتسمح مليارات التفاعلات الدقيقة يوميًا للخوارزميات بتحسين تنبؤاتها بسرعة تفوق الحدس البشري، وهو أمر يمكن أن يؤدي إلى خفض الإنتاجية بنسبة تصل إلى 40% في حال استمرت حملات التشتيت. 

العواقب المعرفية والعاطفية

إن العواقب المترتبة على ذلك تتخطى مجرد تأثير التشتت على الانتباه، فعندما يعتاد العقل على دفعات مجزأة من الحداثة، يصبح التفكير العميق أمرًا صعبًا. وقد لاحظ المعلمون أن طلابهم باتوا يواجهون صعوبة في استيعاب النصوص الطويلة ولا يتحملون القراءة البطيئة بشكل متزايد. كما أشاروا إلى تضاءل قدرات تحملهم المعرفية، ويقصد بذلك القدرة على التمسك بفكرة ما لمدة، وهو تحول غالبًا ما يظل خفيًا حتى تتجلى آثاره على عملية التعلُم والصبر. 

وأما من الناحية النفسية، فإن المحتوى المنسق يزيد من المقارنات الاجتماعية، حيث بات المراهقون والشباب أكثر عرضة لأن تتم مقارنتهم مع النماذج المثالية لأقرانهم. وقد أزيح الستار عن العلاقة بين التعرض لوسائل التواصل الاجتماعي والزيادة في معدلات القلق وعدم الرضا عن الجسم نتيجة لهذه المقارنات. وغالبًا ما تكشف الممارسات السريرية أن الأشخاص يربطون بين تقدير الذات ومقاييس القبول الرقمي، وهو بديل هش للانتماء، وبالتالي، فإن التكنولوجيا التي تعد بالتواصل تحمل في طياتها خطر تعزيز الشعور بالوحدة.

كما قد تساهم النصائح الشائعة كحذف تطبيق، أو إغلاق الإشعارات، أو العزف عن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي طوال عطلة نهاية الأسبوع، والمعروفة باسم "الديتوكس الرقمي"، بشعور المستخدمين ببعض الراحة، ولكنها نادرًا ما تُحدث أي تغيير جذري. فمثل هذه الأساليب تعالج الأعراض لا الأسباب، وتتغاضى عن أن المشكلة الحقيقية تكمن في تفويض الآلات بالتفكير والاختيار عوضًا عنا. فعندما تقرر الخوارزميات ما يستحق أن نهتم به، فإننا نتنازل عن قدرة أساسية، ألا وهي التأمل والتفكير. 

المنظور الإسلامي: استعادة التأمل وروح المجتمع 

يُعد تآكل القدرة على التأمُل والتفكُر والتدبُر أمرًا مقلقًا من منظور إسلامي. فالقرآن الكريم يدعونا مرارًا إلى التفكر، وهو ممارسة تدعو لتأمل الخلق والنفس لاستشعار الله (سورة آل عمران، الآية 191). وبعيدًا عن كونه أمرًا نظريًا، فإن التفكر ممارسة ميسورة، نظرًا لكونها تشجع على التدبر والتأني قبل إبداء ردة فعل، وملاحظة أنماط الحياة، والتشكيك في الفرضيات. وهذه الممارسة تتناقض بشكل مباشر مع التصفح اللانهائي للحياة الخوارزمية، مناشدة إيانا بضرورة تذكر أن الانتباه والتأني أمانة ينبغي الحفاظ عليها. 

ومن المبادئ الأساسية أيضًا مبدأ المجتمع الواحد، فالصلاة الجماعية، على سبيل المثال، ليست مجرد عبادة، فهي مثال على المساواة، والتواجد، والتضامن، فقد وصف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المؤمنين بأنهم كالبُنْيَانِ يشدُّ بعضُه بَعْضا، كماذكر في صحيحمسلم. وعلى عكس المنطق المعزول الذي تقوم عليه موجزات الأخبار القائمة على المقارنات، فإن الممارسات المجتمعية الإسلامية تؤكد على أهمية التعزيز المتبادل، وهي تذكرنا بأن قيمة الإنسان لا تقاس بعدد الإعجابات، بل بالتضامن الحقيقي على أرض الواقع.

نحو خيال مغاير

إن مهمتنا لا تقتصر على تنظيم وقت الشاشة، بل تشمل إعادة تصور دور التكنولوجيا في حياة الإنسان. هل بوسعنا تصميم منصات تحث على التعمق، والتأني، والتواضع؟ هل يمكن للمجتمعات أن تستعيد طقوس التواجد التي تجابه التشتت الناجم عن الخوارزميات؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة يلزم التفكير بما هو أبعد من مجرد حلول هندسية؛ إذ يتعين وجود مشاركة فلسفية، ونفسية، وروحية.

كما أن تبعات وكلفة الإتقان الخوارزمي لا يقدر بالتشتت فحسب، بل يترتب عليه حصر ما يجعلنا بشرًا. وللتصدي لذلك، نحتاج إلى تعزيز ممارسات فردية وجماعية، تبقينا بعيدين عن منطق الآلة. وقد تغرينا التكنولوجيا دائمًا بالراحة، ولكن الراحة لا ينبغي أن تتحكم في عقولنا، أو علاقاتنا، أو إحساسنا بأنفسنا وجوهرنا. 

* هذا المقال من تأليف الدكتور فهد حبيب خان، الأستاذ المساعد في علم النفس الإسلامي بكلية الدراسات الإسلامية في جامعة حمد بن خليفة.

* تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفه، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.


الموازنة بين الإيمان والتكنولوجيا والترابط العائلي: الأسرة في عصر الشاشات الرقمية

25 أغسطس 2025
لقراءة المزيد

الأخلاقيات الإسلامية لمكافحة الجرائم المالية

22 يوليو 2025
لقراءة المزيد

الشهور العربيّة؛ أسماؤها ومعانيها

25 يونيو 2025
لقراءة المزيد

الحق في ممارسة الشعائر الدينية: نحو آفاق إسلامية " أكثر شمولًا"

29 أبريل 2025
لقراءة المزيد

نبذة عن المقال كيف نحافظ على أخلاقيات وروح الصيام بعد شهر رمضان

15 أبريل 2025
لقراءة المزيد

كيف يسهم شهر رمضان في مكافحة الإسلاموفوبيا وتعزيز الوحدة والتفاهم؟

16 مارس 2025
لقراءة المزيد

تأملات نفسية وروحية للتعامل مع آثار الإبادة الجماعية في غزة

29 أكتوبر 2024
لقراءة المزيد