بقلم: الدكتورة عبير الشمري

تم تخصيص شهر أبريل للتوعية باضطراب التوحد، بهدف تعزيز مبادئ الفهم والشمولية تجاه ذوي التوحد، وعائلاتهم، ومن يقوم برعايتهم. وفي هذا المقال، تسلط الدكتورة عبير الشمري، عالم وأستاذ مساعد بمعهد قطر لبحوث الطب الحيوي التابع لجامعة حمد بن خليفة، الضوء على أهمية المشاركة المجتمعية في أبحاث التوحد، والحاجة الماسة للتشخيص المبكر وتعزيز التدخلات المناسبة، والعديد من الأساليب الأخرى.
إن التوحد هو اضطراب في النمو العصبي، وهو حالة تؤثر على طريقة تفاعل الأفراد وتواصلهم مع العالم من حولهم. وتتمثل الأعراض الأساسية لاضطراب التوحد في صعوبة التفاعل الاجتماعي، والتواصل، والسلوكيات المتكررة (مصطلح يشير إلى التلويح باليدين، أو القفز، أو التركيز المفرط على أهداف محددة، أو مقاومة التغيير في الروتين اليومي). كما تضم الأعراض الأساسية عدة تحديات اجتماعية، منها: قلة التواصل البصري، وتأخر أو غياب النطق والكلام، وصعوبة في فهم المشاعر، أو الإشارات الاجتماعية؛ إضافة إلى أعراض أخرى شائعة وغير أساسية مثل: القلق واضطرابات النوم.
ولا يزال من الصعب الجزم بالسبب الرئيسي لاضطراب التوحد؛ ولكن تشير الدراسات إلى أنه قد يرجع سبب ذلك لعدة عوامل جينية، وغير جينية، وبيئية؛ فضلًا عن التداخل المعقد بين هذه العوامل، والذي يزيد من خطر الإصابة بهذا الاضطراب. وحتى الآن، تم ربط مئات الجينات والعديد من العوامل البيئية باضطراب التوحد، إلا أنه لم يتم تحديد أي جين أو عامل واحد كسبب مباشر، الأمر الذي يزيد من صعوبة فهم هذا الاضطراب؛ وعادة ما يتم استخدام هذا التعدد والتفرع في العوامل المسببة للإشارة للتوحد على أنه اضطراب طيفي تختلف شدته من شخص لآخر، إذ قد يعاني الأفراد من أعراض خفيفة إلى متوسطة وبإمكانهم العيش باستقلالية؛ في حين يحتاج آخرون ممن يعانون من أعراض شديدة إلى دعم مستمر من عائلتهم أو مقدمي الرعاية الصحية.
وفي العالم العربي، يتشارك السكان خصائص جينية وبيئية تميزهم عن بقية العالم. لذا، فإنه من الضروري تحديد عوامل التوحد التي يرجح أن تكون فريدة من نوعها في المجتمعات العربية، واعتماد أساليب تشخيصية محددة، فضلًا عن تصميم علاجات تلبي احتياجات ذوي التوحد في هذه المنطقة. ولا يمكن تحقيق هذا الهدف دون توفير الدعم والمشاركة المجتمعية في البحوث المتعلقة باضطراب التوحد.
أهمية المشاركة المجتمعية في أبحاث التوحد
تعود المشاركة المجتمعية في أبحاث التوحد بعدة فوائد أساسية:
● فهمٌ أفضل للتوحد: إذ تتيح مشاركة أفراد المجتمع تجاربهم مع العلماء فرصة قيّمة لفهم العوامل التي تساهم في الإصابة باضطراب التوحد في العالم العربي ومقارنتها مع العوامل الموجودة في المجتمعات الأخرى، بهدف تطوير استراتيجيات فعالة للتشخيص والعلاج بشكل يتوافق مع الاحتياجات المجتمعية المحلية.
● زيادة الوعي: تعُزز المشاركة المجتمعية الوعي العام بالتوحد وتتصدى للمفاهيم الخاطئة والوصمة الاجتماعية، إذ قد تتردد بعض العائلات في طلب المساعدة بسبب مخاوف أو معلومات غير دقيقة، مما يؤخر حصول الطفل على الدعم والتدخلات المناسبة؛ لذا، فإن إشراك المجتمع في الأبحاث أمرٌ ضروريٌ لتعزيز الوعي وحث الأفراد على المشاركة.
● توجيه برامج البحث: يمكن أن تساعد مشاركة العائلات وذوي التوحد رؤاهم وتجاربهم القيّمة الباحثين في تصميم برامج بحثية تلبي احتياجات المجتمع وتعكس تحدياته الحقيقية.
● نهج مخصص للتشخيص والعلاج: يختلف طيف التوحد من حالة لأخرى، ولم يعد من المناسب اعتماد نهج موحد في العلاج، لذا فإن المشاركة المجتمعية تساهم في تقسيم حالات التوحد إلى مجموعات فرعية، الأمر الذي يمهد لتطوير أدوات تشخيصية وعلاجات تتناسب مع كل مجموعة على حدة.
الحاجة إلى التشخيص المبكر والتدخلات المتاحة
وعلى الرَّغم من أنَّاضطراب التوحد حالةٌ تستمرُّ مدى الحياة، إلا أن التشخيص المبكر والتدخل في الوقت المناسب يمكن أن يُحسن المهارات الاجتماعية، ويعزز الاستقلالية، ويرفع من جودة الحياة بشكل عام، ولكن تواجه العديد من الأسر صعوبة في الحصول على التشخيص الدقيق في الوقت المناسب نظرًا لقوائم الانتظار الطويلة ونقص الأخصائيين المؤهلين، لذا تضطر بعض الأسر للانتظار عدة أشهر أو سنوات، الأمر الذي يعيق التدخل المبكر.
وللتصدي لهذه التحديات، يتعين ابتكار طرق تشخيصية موضوعية ومتاحة تدعم التشخيص المبكر. ويرجح أن تساهم المشاركة المجتمعية في دعم البحوث التي ترنو لاكتشاف المؤشرات البيولوجية المتسببة في اضطراب التوحد، خاصة في المجتمع العربي. كما قد تساعد هذه المشاركة في تطوير فحوصات بسيطة في العيادات، مثل تحاليل الدم، لتشخيص التوحد بسرعة ودقة، لضمان تلقي الأطفال التدخلات السليمة في الوقت المناسب.
وفضلًا عن التشخيص المبكر، يمكن أن تساعد الأبحاث المستمرة على ترسيخ فهمنا لاضطراب التوحد وأسبابه البيولوجية في السياق المحلي، وذلك لتمهيد الطريق لعلاجات مخصصة ومبتكرة، خاصة لأولئك الذين يعانون من أعراض شديدة.، كما قد تساهم هذه الجهود في تحسين جودة حياة ذوي التوحد وتخفيف حدة أعراضهم.
مستقبل أبحاث التوحد
تزخر الأبحاث بقدرات كبيرة يمكن تسخيرها لتحسين حياة الأفراد من ذوي التوحد وعائلاتهم، ويعتمد إحراز التقدم في هذا المجال على وعي المجتمع ودعمه للمبادرات البحثية المستمرة. كما يمثل تطوير الطب المتخصص، لاسيما في المجتمعات العربية، أولوية رئيسية نظرًا لتأثير العوامل الجينية والبيئية في كيفية ظهور التوحد ومدى الاستجابة للعلاج؛ ويمكن للباحثين اكتشاف عوامل فريدة في المجتمع المحلي من خلال تعزيز المشاركة المجتمعية، بهدف تطوير أدوات تشخيصية خاصة وإيجاد علاجات أكثر فعالية.
وختامًا، فإن التعاون بين الباحثين والمجتمع يمكن أن يرسم مستقبلًا مشرقًا يضمن لذوي التوحد الحصول على الرعاية والدعم الذي يحتاجونه لينعموا بحياة هانئة.
قام بمراجعة وتدقيق النص العربي، رويدة زياد طه، باحث مشارك أول، بمعهد قطر لبحوث الطب الحيوي التابع لجامعة حمد بن خليفة.