تركيز الجهود على برامج الحمية الغذائية والتمارين الرياضية والعوامل البيولوجية المتسببة في الإصابة بالسمنة والسكري

الهيئة: معهد قطر لبحوث الطب الحيوي
 مؤشر كتلة الجسم

تُعد السمنة إحدى أهم التحديات الصحية في دولة قطر، إذ تؤثر على أكثر من 70% من البالغين ونحو نصف الأطفال. ولا يكمن التحدي الحقيقي في فقدان الوزن، بل يتمثل في الحفاظ على الوزن المفقود، ويرجع ذلك لظاهرة بيولوجية قوية تُعرف باسم الذاكرة الجينية للخلايا الدهنية، حيث تدفع هذه "الذاكرة" الجسم لاستعادة الوزن المفقود.

كما تشير الأبحاث الحديثة إلى أن التغيرات الموروثة في التعبير الجيني، وتحديدًا التعديلات اللاجينية التي لا تُغير من تسلسل الحمض النووي، ولكنها تؤدي دورًا حاسمًا في استمرار السمنة وتطور مرض السكري من النوع الثاني. وبالنظر إلى أن دولة قطر تعتبر إحدى الدول الأعلى في معدلات السمنة والسكري حول العالم، فإن فهم هذا التحدي يمثل أولوية صحية ملحة.

تحدي السمنة في قطر 

تواجه دولة قطر واقعًا صحيًا فريدًا؛ نسبة لارتفاع معدلات زواج الأقارب (54%) وأنماط الحياة غير الصحية، مما يزيد من القابلية الوراثية للإصابة بالأمراض ويجعل الوقاية من السمنة أمرًا أكثر صعوبة. كما تشهد البلاد زيادة كبيرة في معدلات السكري من النوع الثاني، لا سيما بين الأفراد الذين يعانون من السمنة. وللتصدي لهذا التحدي، ينبغي أن تركز الجهود على برامج الحمية الغذائية والتمارين التقليدية ودراسة العوامل البيولوجية التي تؤدي إلى زيادة الوزن والسكري. 

فعلى سبيل المثال، لا تعد الخلايا الدهنية مجرد مخازن للدهون، فهي تعمل كمنظِّمات للغدد الصماء التي تُفرز الهرمونات والإشارات التي تؤثر على الشهية، والعمليات الأيضية، وتحارب الالتهابات وحساسية الإنسولين. وعندما يكتسب شخص ما وزنًا زائدًا، تكبر هذه الخلايا وتتعرض للإجهاد، مما يؤدي إلى الإصابة بالالتهابات واختلال وظائف الميتوكوندريا ومقاومة الإنسولين. والأهم من ذلك، هو أن الخلايا الدهنية تحتفظ بـ "ذاكرة" لأنماط الأكل والعمليات الأيضية السابقة من خلال تعديلات لاجينية، لذا، وحتى بعد فقدان الوزن، فإن التغيرات الجينية المستمرة تجعل هؤلاء الأفراد أكثر عرضة لاستعادة الوزن المفقود وحدوث المضاعفات الأيضية، ويفسر هذا سبب فشل الأساليب التقليدية لإنقاص الوزن في تحقيق نتائج دائمة.

الذاكرة اللاجينية: الأسس البيولوجية للسمنة

علم الجينات هو الآلية الكامنة وراء هذه الذاكرة الخلوية، والتي تنطوي على تغييرات موروثة تُجسد كيفية عمل الجينات دون تغيير تسلسل الحمض النووي. وفي حالات السمنة، تبرمج هذه الآليات الخلايا الدهنية لتخزين الدهون بكفاءة أعلى ومقاومة الإنسولين، في حين تعرقل عمل الجينات التي تساعد الجسم على حرق الطاقة. وحتى بعد فقدان الوزن، يمكن للجسم أن "يتذكر" حالته السابقة من السمنة ويميل للعودة إليها. وهذا يفسر ارتفاع معدلات الانتكاس بعد التدخلات التقليدية، ولماذا تُعد السمنة الآن حالة مزمنة قابلة للانتكاس بدلًا من كونها مرضًا قصير الأمد.

وفي دولة قطر، تُعد السمنة بين الأطفال أمرًا شائعًا، وتؤدي التغيرات اللاجينية الناتجة عنها إلى تسريع خطر الإصابة بالسكري المبكر. ورغم أن ذلك يمثل تحديًا صحيًا كبيرًا، إلا أنه يفتح أيضًا آفاقًا جديدة. إذ تُظهر الأدلة الحديثة أن التدخلات السلوكية مثل النشاط البدني المنتظم والأنظمة الغذائية الغنية بالعناصر المضادة للالتهابات يمكن أن تُعيد تشكيل هذه العلامات اللاجينية تدريجيًا، مما يُخفف من الأثر الطويل الأمد للسمنة. وفي الوقت نفسه، يعمل الباحثون والعلماء على تطوير علاجات دوائية مبتكرة وأساليب تستهدف المسارات اللاجينية. 

إن معالجة السمنة في دولة قطر تتطلب وضع استراتيجية شاملة تتضمن محورين رئيسيين: أولًا، تظل أنماط الحياة أمرًا ضروريًا يجب تصميمها بما يتوافق مع التأثيرات اللاجينية. ثانيًا، إتاحة النظام الصحي المتقدم في دولة قطر، بما في ذلك المرافق مثل (قطر بيوبنك)، وهو منصة تعنى بتطبيقات الطب الدقيق حيث تُستخدم المؤشرات الجينية واللاجينية لتوجيه وتخصيص التدخلات الفردية. وأخيرًا، فإن أهم ما يمكن تحقيقه على المدى الطويل هو الوقاية التي تبدأ في وقت مبكر من الحياة. ونظرًا لأن الجينوم اللاجيني للأطفال يتميز بمرونته العالية، فإن السياسات التي تُعزز صحة الأم، والرضاعة الطبيعية، والتغذية الصحية في مرحلة الطفولة يمكن أن تساهم في تعزيز المقاومة ضد السمنة والأمراض الأيضية.

وإن السمنة ليست مجرد تراكم للوزن الزائد، بل هي تراكم لذاكرة لاجينية تُقيد الجسم في حالة من زيادة الوزن واختلال الأيض. وبالنسبة لدولة قطر، يُمثل هذا الفهم العلمي دعوة قوية للعمل. ويمكن لدولة قطر حماية سكانها من عبء المرض المتزايد، وتقديم نموذج عالمي في الرعاية الصحية القائمة على العلم، والاستثمار في رفاه الأجيال القادمة من خلال تعزيز البحث في علم الوراثة اللاجينية للخلايا الدهنية ودمج هذه الرؤى في نظام الرعاية الصحية.

 

* هذا المقال من تأليف الدكتورة ألفة خليفة، زميل باحث بمعهد قطر لبحوث الطب الحيوي في جامعة حمد بن خليفة.

* تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفته، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكاتبة ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.


ما وراء الملصق: المخاطر الخفية للمكملات الغذائية

11 ديسمبر 2025
لقراءة المزيد

عندما تلتقي الخوارزميات بعلم الأورام: الدور المتنامي للذكاء الاصطناعي في علاج سرطان الثدي

10 ديسمبر 2025
لقراءة المزيد

من التشخيص إلى العلاج: كيف يساهم الذكاء الاصطناعي في تحسين رعاية مرضى سرطان الثدي

09 نوفمبر 2025
لقراءة المزيد

معهد قطر لبحوث الطب الحيوي يعزز الوعي العام باضطراب التوحد من خلال المبادرات البحثية والعمل المجتمعي

23 يونيو 2025
لقراءة المزيد

نحو مستقبل أفضل لرعاية ذوي التوحد: أهمية إشراك المجتمع وتعزيز البحث العلمي

29 أبريل 2025
لقراءة المزيد

صيام مرضى السكري من النوع الثاني في رمضان: ما ينبغي عليك معرفته

16 مارس 2025
لقراءة المزيد

دمج الذكاء الاصطناعي في تشخيص اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط والتوحد

29 ديسمبر 2024
لقراءة المزيد