هجرة العقول في لبنان ستؤثر على رأس المال البشري

هجرة العقول في لبنان ستؤثر على رأس المال البشري والتماسك الاجتماعي والاستقرار

18 أكتوبر 2021

*الدكتور أنيس بن بريك

هجرة العقول في لبنان ستؤثر على رأس المال البشري والتماسك الاجتماعي والاستقرار

اعتادت أعداد قياسية من المهندسين والمحاسبين والمدرسين والأكاديميين والشباب اللبنانيين على الرحيل عن بلادهم للبحث عن فرص عمل في الخارج. وأدى انهيار الاقتصاد اللبناني والغموض السياسي العميق المقترن بالتضخم المفرط إلى تفاقم العجز في كل شيء، بدايةً من الإمدادات الغذائية مرورًا بالوقود والأدوية وانتهاء بالكهرباء. وتبلغ معدلات العاطلين عن العمل في لبنان أربعة من بين كل 10 أشخاص، في حين يعني انخفاض قيمة العملة حدوث انخفاض حاد في الأجور الحقيقية، بنسبة تزيد عن 90%.

وضاعف فقدان ما يقدر بنحو 1,000 عامل من العاملين في مجال الخدمات الطبية والصحية منذ الانفجار المدمر الذي وقع في ميناء بيروت خلال شهر أغسطس من 2020 من أزمة الموارد التي تواجه المستشفيات والعيادات خلال الجائحة.

وفي خضم هذه الموجة العارمة والمتواصلة من الهجرة الجماعية، حذر البنك الدولي من أن لبنان يعاني من استنزاف خطير لرأس المال البشري، وأنه سيكون من الصعب للغاية التعافي من الضرر الدائم الذي قد يلحق بالبلاد من جراء هذه الهجرة.

التداعيات الإقليمية

تخسر اقتصادات الدول العربية ما يصل إلى 1.5 مليار دولار سنويًا نتيجة هجرة العقول. وفي جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تتزايد احتمالات رغبة المواطنين في مغادرة بلدانهم إذا كانوا شبابًا ومتعلمين تعليمًا جيدًا وذكورًا، وفقًا لتقرير الباروميتر العربي لعام 2019. وتوصل استطلاع للرأي أجرته مؤسسة أصداء بي سي دبليو للشباب العربي أن أكثر من 77% من الشباب اللبناني قد فكروا في مغادرة بلادهم أو يحاولون بقوة الرحيل عنها.

ولا يزال هناك انفصال ملحوظ بين مستويات التعليم العالي والنمو الاقتصادي في جميع أنحاء المنطقة. وتظهر الدراسات استمرار التقدم في التحصيل العلمي للفئة العمرية من 20 إلى 39 في دول جنوب البحر الأبيض المتوسط (في الجزائر، ومصر، والأردن، ولبنان، والمغرب، وتونس). وبالنسبة للوضع في لبنان والأردن، ترتفع نسبة السكان الحاصلين على تعليم جامعي بشكلٍ كبيرٍ عن النسبة المسجلة في الدول الأربع الأخرى، حيث توجد في لبنان أكثر من 40 جامعة، بما في ذلك سبع كليات طب معترف بها دوليًا، لسكان يقل عددهم عن سبعة ملايين نسمة.

وتعكس اتجاهات الهجرة المتزايدة على الأرجح إحباطًا أوسع نطاقًا بفعل النمو الباهت وطويل الأجل في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة، الذي تفاقم بفعل جائحة كوفيد-19، وهشاشة الاقتصاد الكلي، والنتائج السيئة في سوق العمل، والتي تفاقمت بسبب سوء الإدارة. وفي عام 2019، بدا أن 11 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تتبع مسارات مالية غير مستدامة.

إيجاد ديناميكية إيجابية

تُستوحى سياسات النمو في جميع أنحاء العالم من فكرة أن رأس المال البشري هو المحرك الرئيسي للنمو. ويتمثل التحدي الذي يواجه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في كيفية إيجاد ديناميكية إيجابية بين تطوير رأس المال البشري والنمو المحتمل. ولكن هذا يصبح أكثر صعوبة عندما تؤدي هجرة العقول إلى إفراغ القطاع الطبي كثيف العمالة، وتلك العناصر الأساسية لاقتصاد المعرفة، مثل التعليم وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وسوف تستمر المنافسة العالمية على استقطاب هذه المهارات في الارتفاع، لا سيَّما في الاقتصادات الفضية، وهي اقتصادات الدول المتقدمة التي تتميز بشيخوخة السكان العاملين فيها. وقد كشفت جائحة كوفيد-19 عن ارتفاع الطلب الدولي على الأطباء المهاجرين ونقص الموظفين في البلدان الأكثر تضررا من هجرة العقول الطبية، بما في ذلك لبنان وتونس وليبيا والعراق وسوريا.

هجرة العقول في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات

يُظهر "تقرير التنمية في العالم لعام 2021: البيانات لحياة أفضل" أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تخسر حوالي 10.000 من المتخصصين الماهرين في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كل عام. وبما أن تلك الدول تخسر هؤلاء المتخصصين في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فإنها تخسر أيضًا مهاراتهم الحيوية اللازمة لتسخير القيمة المتزايدة للبيانات في عملية صنع السياسات وجهود التنمية.

ويمكن أن يساعد الجمع بين البيانات الضخمة والمصادر التقليدية مثل البيانات الإدارية أو التعدادات أو الدراسات الاستقصائية الوطنية أو البيانات التي تُصدرها المنظمات غير الحكومية في سد فجوات البيانات، واستخلاص التحليلات، وتسهيل عمليات التقييم الأكثر دقة للبرامج والسياسات لتلبية الاحتياجات المختلفة للسياسات العامة. وفي أعقاب الانفجار الذي وقع في ميناء بيروت، أُنشأت منظمات المجتمع المدني العديد من منصات البيانات المفتوحة. واستخدم الباحثون والصحفيون والمواطنون بعضًا من هذه المنصات بهدف جعل الاستجابات الإنسانية والسياساتية أكثر اعتمادًا على البيانات. وتبرز أهمية مهارات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المتقدمة للغاية لنمو هذه الحركة.

دوران العقول

يمكن أن تؤدي هجرة المتخصصين ذوي المهارات العالية من البلدان النامية إلى تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية لبلدانهم بشكل كبير، سواء عادوا أم لم يعودوا.

وتشير تجربة وادي السيليكون إلى كيفية وإمكانية تحويل العلاقة بين الهجرة والتجارة والتنمية الاقتصادية. وخلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، غادر المتخصصون الكوريون والتايوانيون وادي السيليكون لإنشاء واحات للعلوم خاصة بهم. ومنذ عام 1991، أعادت الشبكة الكولومبية للعلماء والمهندسين في الخارج التواصل مع المغتربين. وفي مثل هذه الحالات، تفسح "هجرة العقول" الطريق أمام "دوران العقول"، وهي حركة دائرية للعمالة الماهرة بين الدول.

ويمكن للجامعات البحثية أيضًا أن تؤدي دورًا في جذب الصناعات المبتكرة. ومن الأمثلة الإقليمية على ذلك المدينة التعليمية في قطر، حيث يسلط إنشاء جامعات بحثية مثل جامعة حمد بن خليفة الضوء على الجهود المتضافرة لإقامة تجمع من العلماء والباحثين يتناسب مع الطموحات التنموية للدولة. ويمكننا أيضًا أن ننظر إلى المبادرات السابقة مثل منتدى شبكة علماء المغتربين العرب التابعة لمؤسسة قطر، التي كانت مخصصة لعكس اتجاه هجرة العقول للمواهب العلمية العربية عبر إيجاد فرص للتواصل والتعاون.

ويمكن أن تؤدي زيادة تنقل العلماء الحاصلين على درجة الدكتوراه وقدرتهم على العمل عبر الحدود الوطنية إلى إثراء التدريب ودعم بناء شبكات المعرفة عبر المناطق الجغرافية. وفي المقابل، أوجدت جائحة كوفيد-19 زخمًا جديدًا لجهود التعاون الدولي يتيح لها إمكانية تتبع القضايا العلمية والاجتماعية العالمية، حيث أوضحت كيف يمكن أن تساعد الجامعات على تحسين جودة وكمية مخرجاتها البحثية.

وهذه هي نوع المبادرات التي قد تساعد في التخفيف من هجرة العقول في لبنان، وتمكين المهاجرين ذوي المهارات العالية في البلاد من الاستمرار في المشاركة والمساهمة في العلوم والابتكار في وطنهم، ليتجاوزوا ذلك مجرد إرسال التحويلات المالية إلى بلدانهم الأم فقط. ويمكن للشبكات الاجتماعية والمهنية أو برامج التوجيه التي تجمع بين الخريجين الجدد والطلاب مع المتخصصين المتمرسين، حشد الجهود الرامية لتبادل المعرفة، إلى جانب اتفاقيات البحوث والابتكار بين الأطراف المعنية من القطاعين العام والخاص الذين يطورون مشاريع البحوث والتطوير العلمية في المنطقة.

طريق رأس المال البشري لتعافي لبنان

ستحد هجرة العقول، علاوة على الأزمة الاقتصادية والسياسية التي ربما تكون ضمن أكثر ثلاث أزمات عالمية شدةً منذ منتصف القرن التاسع عشر، فقط من قدرة لبنان على توجيه تعافيها، وقد تؤدي حتى إلى حدوث تحولات ديموغرافية. وقد ظلت المظاهرات والاحتجاجات ضد الظروف الاقتصادية المتردية متذبذبة، ولكن المخاوف الأمنية يمكن أن تقوض السلام الاجتماعي الهش.

إن هجرة العقول قضية مؤثرة، وتأثيرها أعمق بكثير من الأثر المالي، ولهذا السبب أيضًا يجب أن يكون إبطاء هجرة العقول في لبنان جزءًا من أي سيناريو لإصلاح الحكم.

* يشغل الدكتور أنيس بن بريك منصب أستاذ مشارك في كلية السياسات العامة بجامعة حمد بن خليفة، عضو مؤسسة قطر. وهو المدير المؤسس لبرنامج بحوث وتقييم السياسات الاجتماعية بالكلية.

ملاحظة:
هذا المقال مقدَّم من إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة نيابةً عن الكاتب. والآراء الواردة في هذا المقال تعكس وجهة نظر الكاتب، ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.