مع اقتراب موعد انعقاد مؤتمر جامعة حمد بن خليفة الدولي حول البصمة الوراثية، يقدم الدكتور عبد العظيم أبو زيد، الأستاذ بكلية الدراسات الإسلامية، لمحة عن تطور الوسائل والتقنيات ذات الصلة، وآليات استخدامها في مختلف دول العالم، إلى جانب قضايا أخرى
يُعتبر حفظ النسب من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة، إلى جانب الدين والنفس والعقل والمال، لما يترتب على ضياع النسب من مضار خطيرة، مثل تفكك الروابط الأسرية وإلحاق الأذى النفسي بالأبناء المتضررين.
وللحفاظ على النسب، يعترف الإسلام بوسائل متعددة لبداية النسب، مثل عقد الزواج الذي ينسب الأبناء إلى أبيهم البيولوجي بشكلٍ مباشر، هذا بالإضافة إلى إقرار الأب، في حالة الزواج غير الموثق أو غير المعلن، وشهادة الآخرين على انتساب الطفل إلى أسرة معينة دون أي اعتراض من أي طرف، وفي المقابل، يرى الفقهاء أنه لا سبيل للزوج إلى إنكار نسب الطفل إلا باللعان، الذي ينطوي على أيمان مغلظة متكررة ينفي بها الزوج نسب الطفل إليه، ويُفسخ بعدها عقد الزواج.
وهذا الحصر لسبل نفي النسب يؤكد حرص الشريعة الإسلامية على الحفاظ على النسب، فانتساب الطفل إلى أبويه انتسابًا صحيحًا مقصدٌ شرعيٌ يحقق التكافل الأسري والتماسك المجتمعي، لكن السؤال المطروح هنا هو: هل يمكن للشريعة أن تقر وسائل جديدة يمكن أن تثبت النسب أو تنفيه على نحوٍ يُغني عن اللعان ويتفادى فسخ عقد الزواج الذي يتبعه عادةً؟
وتحقيقًا لهذه الغاية، وبفضل التطورات التكنولوجية الحديثة، ظهرت وسائل متقدمة وموثوقة يمكن أن تكون ذات تأثيرٍ حاسمٍ في هذا الشأن، وتتيح هذه التقنيات الداعمة، المعروفة طبيًا باسم "البصمة الوراثية"، إمكانية تتبع النسب الوراثي للأفراد، بما في ذلك تحديد وقت الولادة بدقة، وقد ناقش الفقهاء المعاصرون إمكانية اعتماد هذه التقنية كدليل قانوني في المحاكم.
ومع ذلك، قد يكون لاعتماد هذه التقنيات تبعات خطيرة إذا استُخدمت دون ضوابط، مثل السماح للسلطات بأخذ البصمة الوراثية عند الولادة لاستخدامها مستقبلًا، فقد تكشف اختبارات الحمض النووي عن حقائق صادمة قد تؤدي إلى تدمير العائلات بالكامل، وإلى جانب ذلك، قد تتسبب إتاحة مثل هذه الاختبارات بسهولة للآباء، وخاصة الآباء المفرطين في الغيرة، في العديد من التحديات الاجتماعية والأخلاقية، وهذا يتضاعف عندما نأخذ في الاعتبار أن فحوصات الحمض النووي قد تكون عرضة للأخطاء والتلاعب من قبل المختبرات والقائمين عليها، كما شهدت العديد من القضايا في المحاكم.
وعليه، فإن الاستخدام الواسع وغير المنضبط للبصمة الوراثية يمكن أن يهدد قيم المجتمع وكرامة الأفراد بطرق غير أخلاقية، وهو ما يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية التي تجمع بين الحفاظ على كرامة الأفراد وحماية المجتمعات والأنساب، هذا إلى جانب أن علماء الاجتماع حذروا أيضًا من أن البصمة الوراثية قد تزعزع البنى المجتمعية، بما في ذلك الزواج باعتباره الأساس لبقية العلاقات الاجتماعية، كما أُثيرت مخاوف مشابهة فيما يتعلق بالروابط الأبوية، التي غالبًا ما تعتبر النواة الأساسية التي تربط بين مختلف شرائح المجتمع والضامن لاستمرار النسيج الاجتماعي المتماسك المرتبط بالتقاليد والانتماء الأخلاقي والقيمي.
ويمكن أن يؤدي الاعتماد غير المشروط للبصمة الوراثية إلى الخلط في مختلف القضايا القانونية، فمن الناحية الفقهية، يعتبر النسب أساسًا لمجموعة من الأحكام، بما في ذلك الميراث، والوصاية، وصحة الوصية أو بطلانها، وتحمل الدية، والحضانة، وغيرها. وكذلك تشمل المخاوف الأحكام المتعلقة بالأزواج، كوجوب النفقة اليومية، وتحريم الزواج بسبب القرابة، وما إلى ذلك، لذا لا بد من التأني عند النظر في قرارات اعتماد البصمة الوراثية والظروف التي تحدد ذلك.
كان المدّعون العامون والمحامون من أوائل من استخدموا البصمة الوراثية في كل من التحقيقات الجنائية وقضايا الأسرة، خاصة في الدول الغربية، فعلى سبيل المثال، تنص المادة رقم 35 المعدّلة من القانون الإيطالي على أنه يمكن للزوج أن يقدم دليلًا على عدم توافق الخصائص البيولوجية أو فصيلة الدم بينه وبين طفله، واعتمدت كل من فرنسا وإسبانيا تشريعات مماثلة، وفي المقابل، لا تعترف معظم الدول العربية، التي تستند قوانين الأسرة فيها إلى الشريعة الإسلامية، بالبصمة الوراثية كدليل على نفي الأبوة، والاستثناء الوحيد الملحوظ هي الجزائر التي تسمح باستخدام البصمة الوراثية لإثبات أو نفي الأبوة.
ولمعالجة هذه القضايا وغيرها، تنظم كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة مؤتمرًا تحت عنوان "دور البصمة الوراثية في المجتمعات المعاصرة 2024: دراسة نفي أو إثبات النسب فقهيًا واجتماعيًا وقانونيًا"، ويهدف المؤتمر الذي يُعقد يومي 2 و3 أكتوبر إلى فتح باب النقاش حول مدى مشروعية إجراء الدولة المعاصرة للبصمة الوراثية للمواليد فور الولادة وقبل تسجيل نسبهم بسجلاتها الرسمية، كما سينظر المشاركون في مدى صلاحية نفي أو إثبات النسب باستخدام البصمة الوراثية في الحالات التي يثبت فيها وجود عقد صحيح للزواج، وغير ذلك من القضايا المعاصرة.
** الدكتور عبد العظيم أبو زيد هو أستاذ في التمويل الإسلامي في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة.
** تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفه، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عنه ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.