الهيئة: كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية
الدكتور مازن الفرحان

تشهد صناعة الترجمة تحوّلًا متسارعًا بفعل التأثير المتزايد لتقنيات الذكاء الاصطناعي. وفي ظل هذا المشهد المتغير، تبرز مؤسسات مثل مركز الترجمة والتدريب بجامعة حمد بن خليفة بوصفها مؤهلة بشكل فريد للتعامل مع ما تحمله هذه التقنيات من فرص وتحديات على حدٍ سواء. 

ولقد حسّنت أدوات الذكاء الاصطناعي بلا شك من كفاءة الترجمة، فهي اليوم أسرع وأكثر سهولة في الاستخدام، وتزداد دقتها يومًا بعد يوم. وهذا ما يجعلها مفيدةً في توليد المسودات الأولية للترجمة، أو توفير الوصول السريع إلى محتوى متعدد اللغات. كما أثبتت فعاليتها في البيئات التي تتطلب سرعةً وجهدًا، مثل معالجة قواعد البيانات الضخمة أو تقديم الترجمة الفورية؛ ومع ذلك، فإن لهذه المزايا ثمنًا لا يُستهان به، كما هي الحال مع التكنولوجيات التحويلية الأخرى، ولا سيما عند التعامل مع محتوى معقّد لغويًا، أو حساس، أو غني بالإيحاءات الثقافية.

ومن أبرز التحديات التي تفرضها الترجمة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، عجزها عن فهم السياق الثقافي واللغوي بدقة، وعن إدراك الفوارق البلاغية والنوايا الخطابية. والأسوأ من ذلك، هو ما يُعرف بـ"الهلوسة"، أي توليد محتوى غير دقيق أو مختلَق بالكامل؛ وهذه ليست مجرد أعطال تقنية، بل إخلال بجوهر الثقة التي يُفترض أن تقوم عليها الترجمة. فاللغة ليست رموزًا محايدة، بل هي وعاء للمعنى، يتشكل من خلال التاريخ، والهوية، والنبرة، والسياق (الغاية التواصلية). وتزداد هذه التعقيدات وضوحًا في اللغة العربية، نظرًا لثرائها التعبيري وغنى مصطلحاتها، وبُناها النحوية الخاصة، وإحالاتها الثقافية الغنية التي تختلف اختلافًا جذريًا عن تلك الموجودة في اللغات الأوروبية.

ومن هنا تبرز أهمية النهج الإنساني الذي يتبعه مركز الترجمة والتدريب، إذ يقدم برامج لتدريب الخريجين، ويساهم في دعم المبادرات الوطنية في الترجمة، واضعًا نصب عينيه أهميةً قصوى للحسّ اللغوي، والمدلول الثقافي، والدقة السياقية. فالترجمة، في هذا التصوّر، فنٌ بقدر ما هي علم، وبالتالي يحرص المركز على أن تظلّ البصيرة البشرية عنصرًا محوريًا في صميم عملية الترجمة، حتى مع تزايد دور التكنولوجيا بوصفها أداةً مساعدة.

وتبرز هنا مسألة أخرى لا تقل أهمية، ألا وهي السرية. فالكثير من أدوات الترجمة بالذكاء الاصطناعي تعمل بالإنترنت، أو تعتمد على الحوسبة السحابية، مما يعني أن المحتوى الحساس أو السري قد تتم ترجمته ومعالجته دون وجود أي ضمانات كافية، وهذا يشكل مخاطرة كبيرة بالنسبة للمؤسسات التي تتعامل مع مواد خاصة، أو قانونية، أو دبلوماسية، أو أمنية، فضلًا عن حقوق الملكية الفكرية. وهنا يلتزم المركز بأعلى المعايير الأخلاقية، ويعمل ضمن بيئات مؤمّنة، ويشترط التزام جميع المهنيين باتفاقيات السرية وعدم الإفصاح؛ فالدقة لا تنفصل عن الأمانة المهنية، واستخدام التكنولوجيا لا يكون إلا في إطار إشراف بشري واضح. 

ولا تقتصر أدوار المركز على ضمان جودة الترجمة فحسب، بل هو مساهِم فعال في تحقيق رؤية دولة قطر لبناء "جسور التواصل اللغوي والفكري" بين الثقافات. فمن خلال برامجه التدريبية وورشاته التطبيقية، يقوم المركز بإعداد جيل جديد من المتخصصين، ويعزز مهاراتهم اللغوية، ويمكّنهم من التعامل مع متطلبات العمل في الميادين الدبلوماسية، والمؤسسات الأكاديمية، والإعلام، والتجارة الدولية. ويضمن هذا التركيز على التطوير المهني أن يكون العاملون في المؤسسات العامة مواكبين لأحدث المعايير، والمصطلحات المتخصصة، وأفضل الممارسات في مجالاتهم، الأمر الذي يعزز التواصل بين المؤسسات ويزيد من مستويات الوضوح والدقة والاحترافية.

وتأكيدًا على التزامه بالابتكار، أطلق المركز مؤخرًا ورشة عمل متخصصة حول الاستخدام الاستراتيجي لأدوات الترجمة المعزّزة بالذكاء الاصطناعي. وتلبي هذه المبادرة، التي جاءت في الوقت المناسب، حاجةً ملحّة في سوق العمل، حيث يُطلب من المترجمين أن يجمعوا بين الكفاءة اللغوية والوعي التكنولوجي. وتوفّر الورشة تدريبًا عمليًا لمن يرغب في استخدام هذه الأدوات، من منطلق الإدراك بأن الحلول التقنية باتت ضروريةً لإنجاز المهام المعقدة والمتخصصة دون التخلّي عن الجودة التي يوفرها التدخل البشري.

ويتميز مركز الترجمة والتدريب بعلاقاته الوثيقة مع الشركاء المحليين والدوليين. فهو يتعاون مع جامعات رائدة مثل كينجز كوليدج لندن، وكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، لدعم إنتاج محتوى أكاديمي باللغة العربية وتوفير مصادر أكاديمية يستخدمها طلاب الدراسات العليا في دولة قطر وخارجها. وعلى الصعيد الوطني، يرتبط المركز بشراكات وثيقة مع العديد من الوزارات والمؤسسات العامة لتنفيذ مشاريع كبرى في مجال الترجمة والتدريب، من أبرزها شراكته مع وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات لإعداد النسختين العربية والفرنسية من مسح الأمم المتحدة للحوكمة الإلكترونية لسنة 2024، وهو مشروع حظي بإشادة رسمية من الأمم المتحدة.

وفي الوقت الذي يُعيد فيه الذكاء الاصطناعي تشكيل نماذج العمل اللغوي التقليدية، يقدم مركز الترجمة والتدريب بجامعة حمد بن خليفة رؤية متزنة ومدروسة. فهو يدعم الابتكار دون أن يُغفل القيم التي تشكّل أساس الترجمة البشرية عالية الجودة. ومع استمرار دولة قطر في ترسيخ مكانتها كمركز عالمي للحوار، فإن دور المركز مستمر في تعزيز هذه المكانة والارتقاء بها. 

*كتب هذا المقال: مازن الفرحان، القائم بأعمال مدير مركز الترجمة والتدريب التابع لكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة حمد بن خليفة.

*تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفه، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبّر عن الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.


الذكاء الاصطناعي والتقييم التعليمي: التحوّل الجذري في آليات التعلّم

24 يونيو 2025
لقراءة المزيد

فن النقد: مناهج النقد في الفكر العربي

29 مايو 2025
لقراءة المزيد

لغة الماندرين الصينية تتوغل في قطر

20 فبراير 2025
لقراءة المزيد

هل بوسع الذكاء الاصطناعي محاكاة همنغواي؟ كفاح ونجاح GPT-4 في الإبداع الأدبي

13 فبراير 2025
لقراءة المزيد

اللغة العربية في يومها .. إرثٌ ومستقبل

24 ديسمبر 2024
لقراءة المزيد

تحليل النصوص: القوة الخفية التي تشكّل عالمنا الرقمي

11 نوفمبر 2024
لقراءة المزيد

خط النهاية ليس سوى البداية: المساواة بين الجنسين في الألعاب الأولمبية

06 أغسطس 2024
لقراءة المزيد