على مدار السنوات العشرين الماضية، شهدت الدوحة زيادة سكانية ملحوظة حيث ارتفع عدد السكان من 778 ألف نسمة إلى 3.1 مليون نسمة، الأمر الذي أدى إلى توسّع البيئة العمرانية بنسبة 343٪، وفاقم من تأثير ظاهرة الجزر الحرارية الحضرية (UHI)، وأحدث فروقات في درجات الحرارة تقدر بنحو 10 درجات مئوية. وقد تسبب هذا النمو الحضري السريع في ارتفاع درجات حرارة سطح الأرض في فصل الصيف بمعدل 7 درجات مئوية، وإذا استمر الأمر على ما هو عليه، فقد تواجه دولة قطر ارتفاعًا حادًا في الطلب على التبريد، مما يشكل ضغطًا كبيرًا على البنية التحتية، ويزيد من تكاليف الطاقة، ويعزز الضغوط البيئية.
وبحلول عام 2050، من المتوقع أن يعيش ثلثا سكان العالم في المدن. وللإجهاد الحراري المرتبط بتأثير الجزر الحرارية الحضرية عواقب وخيمة على الإنسان والبيئة، منها: زيادة معدلات الأمراض والوفيات، وانخفاض مستويات الراحة الحرارية في الهواء الطلق، وارتفاع الطلب على الطاقة للتبريد، بالإضافة إلى تدهور جودة الهواء وزيادة استهلاك المياه. ومن المرجح أن تزداد هذه التأثيرات سوءًا وفقًا للتغييرات المناخية وتكرر موجات الحرارة الشديدة.
وتعاني المدن ذات المناخ الحار والجاف بالفعل من الإشعاع الشمسي الشديد والارتفاع الكبير في درجات الحرارة خلال الصيف، ويزداد الأمر سوءًا بسبب قلة الغطاء النباتي والمسطحات المائية، وهما عنصران مهمان لتعزيز عمليات التبريد التبخيري. ويغطي هذا المناخ الحار 14.2٪ من سطح اليابسة عالميًا، ومن المتوقع أن يتوسّع ليشمل مناطق أخرى نتيجة التغيرات المناخية.
أما المدن الخليجية، فلقد أدى النمو الاقتصادي والسكاني السريع إلى التوسع العمراني الكبير، وكغيرها من المدن المجاورة، تواجه الدوحة صيفًا شديد الحرارة، مما يجعل استخدام أجهزة التكييف أمرًا ضروريًا في جميع المباني، وبات يُشكّل التبريد نحو 80٪ من إجمالي استهلاك الكهرباء في دولة قطر، ومن المتوقع أن يرتفع بنسبة تصل إلى 34.4٪ بحلول عام 2080 بسبب تغير المناخ. كما تزيد ظاهرة الجزر الحرارية الحضرية من الإجهاد الحراري، خاصة ليلًا، نظرًا لانخفاض الانعكاسية (قدرة سطح ما على عكس أو امتصاص الإشعاع الشمسي)، واستخدام مواد ذات كتلة حرارية عالية، إضافة إلى قلة الغطاء النباتي وحبس "الأخاديد الحضرية" الحرارة من خلال الحد من تدفق الهواء.
وتصديًا لارتفاع درجات الحرارة الحضرية، يمكن للمدن اعتماد استراتيجيات تعمل بشكل متكامل لتقليل درجات الحرارة وتحسين جودة الحياة. وتشمل هذه الاستراتيجيات تعزيز البنية التحتية الخضراء، مثل: زيادة عدد الحدائق وزرع مزيد من الأشجار في الشوارع، الأمر الذي يساهم في خفض درجات الحرارة وتحسين جودة الهواء؛ فضلًا عن استخدام المواد الباردة ذات الانعكاسات العالية والانبعاثات الحرارية المنخفضة والمصمّمة لتقليل امتصاص المباني والأرصفة للحرارة؛ علاوة على إجراء تعديلات على الشكل العمراني للمباني الجديدة، كتحديد ارتفاع المباني وتصاميمها بشكل يقلل من التعرّض للتوهجات الشمسية في الأخاديد الحضرية المكتظة. كما تساهم هياكل التظليل مثل المظلات والبرجولات، في الحد من التعرض المباشر لأشعة الشمس، وتضمن راحة المشاة. ويمكن استخدام البُنى التحتية الزرقاء، مثل النوافير أو أنظمة الترطيب بالرش، لتعزيز التبريد التبخيري. وتمثل جميع هذه المقترحات استجابة متعددة الأوجه لمجابهة تحديات الحرارة الحضرية.
كما تُحرز الجهود المستمرة لجامعة حمد بن خليفة تقدمًا ملحوظًا في معالجة هذه القضايا من خلال تسخير البحث العلمي متعدد التخصصات لتحسين البيئة العمرانية في مدينة الدوحة. وتركّز العديد من هذه البحوث على المساهمة في التخفيف من ظاهرة الحرارة الحضرية باستخدام النمذجة والمحاكاة الحاسوبية المتقدمة. ومن أبرز الإنجازات الحديثة، نمذجة ومحاكاة أكثر الأشكال الحضرية شيوعًا في الدوحة، وهي: المباني متوسطة الارتفاع، ومنخفضة الارتفاع، والمفتوحة ومنخفضة الارتفاع، حيث يتم إجراء عمليات التحقق من مخرجات المحاكاة المناخية الدقيقة باستخدام قياسات ميدانية مفصّلة، وشبكة من محطات مراقبة الطقس لقياس جودة الهواء تم توزيعها في جميع أنحاء الدوحة.
وبعد التحقق من هذا النموذج، تم تطوير ومحاكاة مجموعة من سيناريوهات التخفيف من الحرارة لتمثيل أحياء الدوحة، وتم نمذجة هذه السيناريوهات لتقييم تأثيرها على مؤشرات الحرارة والراحة، وتحديدًا، درجة حرارة الهواء، وشدة الإشعاع، والراحة الحرارية في الهواء الطلق على مستوى ارتفاع المشاة والذي يُقدر بحوالي 1.4 متر. كما تم تقييم تأثير هذه الاستراتيجيات على الطلب على تبريد المباني.
وأظهرت نتائج المحاكاة تحسنًا ملحوظًا في البيئة الحرارية الخارجية بعد تطبيق استراتيجيات تخفيف درجات الحرارة، لاسيما تلك القائمة على البنية التحتية الخضراء. كما أدت هذه الاستراتيجيات إلى خفض درجة الحرارة القصوى للهواء بأكثر من 4 درجات مئوية، وقلصت فترات الإجهاد الحراري الشديد بشكل كبير، وخفضت الطلب على تبريد المباني بأكثر من 20٪. كما أثبتت الاستراتيجيات فعاليتها في تعويض الزيادة المتوقعة في درجات الحرارة الحضرية في ظل سيناريوهات تغير المناخ والانبعاثات المرتفعة للأعوام 2050 و2080.
وعلى الرغم من النتائج المبهرة للبحوث التي تركز على المحاكاة والفعالية المثبتة للاستراتيجيات المتكاملة للتخفيف من شدة الحرارة، لا تزال هناك عدة تحديات في تطبيق هذه النتائج على نطاق واسع، إذ يشكل النسيج العمراني المتراص، والمساحة المحدودة للنباتات، والاعتماد المفرط على مكيفات الهواء، والحاجة إلى تنسيق جوهري للسياسات المتعلقة بهذه القضايا عقبات كبيرة أمام إعادة هيكلة المناطق الحضرية الحالية. وللتغلب على هذه العقبات وتعزيز تطوير مدن مرنة، ومريحة من الناحية الحرارية، وقادرة على تحمل الضغوط المزدوجة للتحضر السريع والتغييرات المناخية، يتعين بذل مزيد من الجهود المشتركة لمخططي المدن، وصانعي السياسات، والباحثين، والعامة.
كما تسلط نتائج المحاكاة التي أجرتها جامعة حمد بن خليفة الضوء على قدرة استراتيجيات التخفيف من شدة الحرارة في إعادة تشكيل البيئة الحضرية في الدوحة، غير أن الانتقال من البحوث إلى التطبيق العملي يتطلب تنسيق السياسات، والتصاميم، والمشاركة المجتمعية. وبوسع دولة قطر إعطاء الأولوية للسياسات التي تُحفز المطورين على استخدام البنية التحتية الخضراء، مثل: الأسطح الخضراء، والحدائق العمودية، والأرصفة المسامية، في المشاريع الجديدة والمساهمة في تجديد المباني الحالية. كما يمكن الدمج بين دعم الطاقة وتدابير التبريد السلبي، ويشمل ذلك استخدام المواد الباردة وهياكل التظليل لتقليل الاعتماد تدريجيًا على مكيفات الهواء الميكانيكية وتقليل الطلب على الكهرباء في أوقات الذروة.
إن تأسيس هيئة مشتركة بين القطاعات المختلفة لمواءمة التخطيط الحضري مع علوم المناخ وتوقعات النمو السكاني من شأنه أن يضمن نجاح تطبيق الاستراتيجيات للتكيف مع الأشكال الحضرية المتنوعة في الدوحة، بما في ذلك الأحياء المكتظة ذات المباني متوسطة الارتفاع والأحياء المفتوحة ذات المباني منخفضة الارتفاع. ويمكن لحملات التوعية العامة أن تساهم في تثقيف السكان حول مخاطر الحرارة، وتعزيز رعاية المجتمع للمساحات الخضراء، فضلًا عن توفير منصات للإبلاغ عن حالات عدم الراحة الحرارية المحلية. وعلى الرغم من استمرار وجود تحديات مثل التخطيط الحضري المكثف وقلة المساحات الخضراء، فإن هذه الإجراءات يمكن أن تمهد الطريق لبناء مدن تحقق التوازن بين الازدهار والقدرة على التكيف مع الحرارة.
*هذا المقال من تأليف الدكتور عزام بن محمد الرياشي، الأستاذ المساعد في كلية العلوم والهندسة، والدكتور محمد رامي الفرا، العالِم الرئيسي في معهد قطر لبحوث البيئة والطاقة، والدكتور طارق علي الأنصاري، القائم بأعمال المدير التنفيذي لمعهد قطر لبحوث البيئة والطاقة والأستاذ المشارك في كلية العلوم والهندسة بجامعة حمد بن خليفة.
توجد نسخة منقحة من هذه المقالة متاحة هنا.
أخبار مشابهة
مشروع وأستاذ بكلية العلوم والهندسة ضمن قائمة جوائز تايمز للتعليم العالي
ما وراء النهضة التكنولوجية والمدن الذكية: المصالح الإنسانية وسلامة الكوكب قبل العوائد المالية
دراسة لجامعة حمد بن خليفة حول تأثير مجموعات الجري النسائية على المشهد الرياضي في قطر
هل يمكن فصل الرياضة عن السياسة؟ معايير مزدوجة ودعوات للمقاطعة تلوح في أفق الرياضة العالمية