مستقبل بحوث العلوم الاجتماعية في عالم ما بعد كورونا

مستقبل بحوث العلوم الاجتماعية في عالم ما بعد كورونا

14 فبراير 2021

بقلم الدكتور أنيس بن بريك، الأستاذ المشارك والمدير المؤسس لبرنامج بحوث وتقييم السياسات الاجتماعية في كلية السياسات العامة

مستقبل بحوث العلوم الاجتماعية في عالم ما بعد كورونا

على إثر تفشي جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19)، تابعنا الحكومات المختلفة وهي تعتمد بشكل كبير على البحث العلمي في اتخاذ قراراتها. ومع ذلك، لا تزال هناك حاجة إلى الكثير من العمل لسد الفجوة المؤثرة للعلوم الاجتماعية، لا سيما وأن صناع السياسات في العالم سيواجهون تحديات وآفاق التعافي من الفيروس حتى فيما بعد الجائحة، وأن كل خيار سياسي يتم اتخاذه سيساهم في تشكيل ملامح عالمنا في مرحلة ما بعد الجائحة، ويمكن أن تقدّم البحوث التطبيقية في مجال العلوم الاجتماعية دلائل ورؤى يمكن أن يُستفاد منها في عمليات صُنع القرار.

يعكس كل هذا حجم التحديات المجتمعية الهائلة التي نواجهها كمجتمع عالمي بحيث لا يمكن لأي جهة فاعلة كانت حكومية أو غير حكومية بمفردها معالجة كل هذه التحديات. وكما ذكرت في خطابي أمام المنتدى السياسي رفيع المستوى لأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2020 الذي عُقد في يوليو الماضي، فإن جائحة كوفيد-19 تمثل تهديدًا متزايدًا يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة في التوظيف والصحة والأعراق والأجيال والنوع الاجتماعي والتعليم والجغرافيا والخدمات الرقمية. وهناك حاجة إلى أدلة لتسليط الضوء على التأثير الهائل، وأعتقد أن مجتمع العلوم الاجتماعية المتصل بشكل أفضل يعني بتحسين القدرات في جميع المجالات للقيام بذلك، وللمساهمة في إيجاد الحلول ذات الصلة بالمشكلات المجتمعية وتحسين الاستجابات لمواجهة الأزمات المحتملة في المستقبل.

دراسة شاملة وفريدة حول كوفيد-19

لقد تشرفت مؤخرًا بالمشاركة كباحث رئيسي في أكبر وأشمل دراسة بحثية عالمية من نوعها بعنوان "دراسة الحياة الأسرية في ظل كوفيد-19"، وقد أُطلقت هذه الدراسة التجريبية في كلية السياسات العامة بجامعة حمد بن خليفة، حيث تم استطلاع آراء الأسر في 72 دولة من قارات أمريكا الشمالية وأفريقيا وأوروبا وأمريكا الجنوبية وآسيا وأوقيانوسيا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما في ذلك دولة قطر؛ بهدف تقييم تأثير الجائحة على الحياة الأسرية وإمكانية تأثيرها على السياسات والبرامج الحكومية في المستقبل.

تُعد أهداف هذه الدراسة العالمية واسعة النطاق وتمثل قيمة لجميع الأسر والمؤسسات المعنية برفاة الأسرة؛ بهدف تتبع نمط الأعراض والأسباب وعوامل الخطر على الصحة العقلية لدى الوالدين؛ ولفهم تجارب ومهارات التأقلم وآليات الوالدين في ظل الظروف التي تفرضها الجائحة؛ ولتحديد احتياجات الوالدين، واستخدام هذه الأدلة للإبلاغ عن تصميم السياسات ودعم الأسر في المستقبل. كما تكشف أهداف الدراسة عن فهم وإدراك راسخين للدور الأساسي للوالدين في توفير بيئات أسرية آمنة ومستقرة وصحية لأطفالهم.

لقد تمكنا من حشد فريق بحثي عالمي يتألف من أكاديميين وخبراء يمثلون الأمم المتحدة والأوساط الأكاديمية ومنظمات المجتمع المدني في جميع أنحاء العالم. وتطلب جدول أعمالنا المشترك أن نكسر العوائق المؤسسية بين الأكاديميين والباحثين والعاملين في المنظمات غير الحكومية والمجتمعات وصناع السياسات لتحقيق النتائج المرجوة. من وجهة نظري، يقدم البحث دراسات حالة لأفضل الممارسات لبحوث العلوم الاجتماعية التي سيكون لها تأثير ملموس على تطوير السياسات المبنية على الأدلة لبعض الوقت في المستقبل.

توفر البيانات التي جمعناها من خلال هذه الدراسة نافذة فريدة على القواسم المشتركة والاختلافات بشأن كيفية تشكيل الأسر وتأثير جائحة كوفيد-19 على كل قارة، عبر جميع مستويات الدخل والتعليم، وضمن جميع الفئات العمرية. وأخذت هذه الدراسة في الاعتبار متغيرات نمط الحياة، مثل التدخين والنشاط البدني والظروف الصحية والإعاقات والأسر الكبيرة والتبعات الاقتصادية، مما جعل الدراسة شاملة وفريدة من نوعها. وتقدّم نتائجها بيانات قوية وموثوقة لتوجيه تصميم وتقديم خدمات الصحة العقلية والنفسية والاجتماعية للأسر في مختلف الثقافات.

تعاون متعدد التخصصات

وفرت الدراسة واحدة من أولى الشَرَاكات الرئيسية بين الأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني، حيث تحظى دراسة الحياة الأسرية بدعم خبراء عالميين من المنظمات غير الحكومية والمعاهد البحثية والجامعات في أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وأوقيانوسيا والمنطقة العربية. تشمل قائمة الشركاء شعبة التنمية الاجتماعية الشاملة التابعة لإدارة الأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، و 28 باحثًا، و21 شريكًا عالميًا من بينهم 10 جامعات ومراكز أبحاث و11 منظمة غير حكومية متعددة التخصصات.

ومن أجل إطلاق الدراسة على أرض الواقع، استفاد شركاؤنا من خبراتهم وشبكات علاقاتهم الأوسع للمساعدة في تأطير أداة المسح والتأكد من أنها مناسبة وشاملة على المستوى المحلي قبل ترجمتها إلى 23 لغة مختلفة. وقد ساعدت المؤسسات الوطنية في دفع الجهود الضخمة المبذولة لجمع البيانات، وتمكنت من مساعدتنا في نشر الدراسة على نطاق واسع عبر الإنترنت ومن خلال الاستبيانات التي جرت عبر الاتصالات الهاتفية، والوصول إلى المجتمعات والسكان الذين لا يمكن الوصول إليهم بسهولة في المناطق النائية جدًا في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ومخيمات اللاجئين في سوريا والعراق واليمن والأردن وليبيا. كما دعمت هذه المؤسسات عمليات تحليل البيانات وهي الآن توفر منافذ لمشاركة النتائج البحثية بشكل علني لتعزيز التوعية.

التأثير

ستقدّم هذه البيانات عالية الجودة الدعم لمجموعة من الاحتياجات المتباينة من خلال تحسين فهمنا لكيفية تأثير الجائحة والاستجابات الحكومية على الحياة الأسرية في جميع أنحاء العالم. وفي الأخير، تكتسب الجامعات والباحثون ومنظمات المجتمع المدني المكانة التي يحتاجون إليها على طاولة صنع السياسات. وقد رحب صانعو القرارات في أوروبا وآسيا وأمريكا الجنوبية ومنطقة الخليج، الذين شاركناهم النتائج البحثية حتى الآن، بفرصة المشاركة والإطلاع على هذه النتائج كأساس لاتخاذ القرارات اللازمة بشأن السياسات المستقبلية حول كيفية ومكان توجيه الموارد المالية والدعم، والتخطيط بشكل أفضل لمواجهة الأوبئة في المستقبل. وبهذه الطريقة، ستحقق المجتمعات أكبر فائدة ممكنة، حيث تترجم الحكومات الأدلة التي جمعناها إلى سياسات وممارسات مناسبة تؤدي إلى تحسين خدمات دعم الأسر.

نموذج ما بعد الجائحة لفائدة الأبحاث المؤثرة في مجال العلوم الاجتماعية

وفرت جائحة كوفيد-19 زخمًا كبيرًا للعمل معًا والتعاون ضمن جدول أعمال مشترك، ولكن ليس بالضرورة أن يكون نموذج الشراكة هذا هو أفضل الممارسات المخصصة لمعالجة حالات الطوارئ العامة، لكنه يمكن وينبغي أن يصبح معيارًا جديدًا لتطوير السياسات العامة في مرحلة ما بعد الجائحة. ونحن كأكاديميين نسعى باستمرار لإظهار تأثير أبحاثنا على المجتمعات، ونعتقد أن دراسة الحياة الأسرية هي مثال على التأثير الذي يمكننا تحقيقه من خلال أبحاثنا التطبيقية في العلوم الاجتماعية إذا تعاونا وحددنا فرصًا للتعلّم من بعضنا البعض، وتمكنا من كسر الجدران والعوائق المؤسسية.