الهيئة: كلية القانون
حوكمة الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية

ابتداءً بأجنحة المستشفيات وحتى التطبيقات الصحية، يعمل الذكاء الاصطناعي على تغيير آليات تقديم الرعاية الصحية بسرعة مذهلة. وإن سرعة انتشار الذكاء الاصطناعي مبهرة للغاية، فعلى سبيل المثال، تطبيق مركز سيدارز سايناي الطبي للصحة على نظارة Apple Vision Pro والعديد من التطبيقات الأخرى التي طورتها شركة سيمنس في مجالات الطب الدقيق والتحليلات التنبؤية. وبينما تستمر الجهود لتطوير هذه التقنيات، لا تزال الأطر التي تحكم استخدامها مبهمة. فالقانون كعادته، بطيء في مواكبة الابتكارات التكنولوجية، الأمر الذي يطرح سؤالًا جديًا: كيف نضمن أن يكون الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية آمنًا، وأخلاقيًا، وجديرًا بثقة المريض؟

وللإجابة على هذا السؤال اقترح الباحثون في كلية القانون بجامعة حمد بن خليفة نموذجًا جديدًا للحوكمة. ويستند "النهج الحقيقي لدورة الحياة (TLA)" إلى فكرة أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يخضع للحوكمة الممنهجة في جميع مراحل البحث، والتصميم، والتنفيذ، والإشراف، ويرتكز النهج على فرضية بسيطة: يجب أن تكون الأولوية للمريض، كما يتعين أن تضمن الحوكمة الامتثال للقوانين والأخلاقيات الطبية في جميع المراحل، لضمان عدم إهمال المرضى. 

لماذا يُعد هذا النهج ضروريًا؟

قد يخطر بذهن القراء بأن هناك أطر حوكمة للذكاء الاصطناعي، مثل الأطر التي طورتها وحدّثتها إدارة الغذاء والدواء في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ ولكن، تركز هذه النُهج بشكل محدود على مصادقة طرح الأجهزة الطبية القائمة على الذكاء الاصطناعي في الأسواق، إذ يجب أن تخضع الأجهزة التي تشكل خطرًا على المستخدمين لمزيد من الفحوصات والإجازات قبل حصولها على الموافقة النهائية. وتكمن المشكلة في أن هذه الأطر لم يتم تصميمها بما يتماشى مع التعقيدات المرتبطة باستخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية وتتغاضى عن قضايا مهمة مثل الموافقة المسبقة، والمساءلة القانونية نتيجة سوء الممارسات المهنية، وغيرها من الحقوق الأخرى للمرضى. 

كما تعتبر هذه النُهج أن الذكاء الاصطناعي أداة تقنية لا تؤثر كثيرًا على حياة الإنسان، في حين ترتكز أطر النهج الحقيقي لدورة الحياة على القوانين والأخلاقيات الطبية، تأكيدًا على أهمية مراعاة معايير الرعاية الصحية في القطاع الطبي، وخصوصية المريض، واستمارات الموافقة، واحترام الاختلافات الثقافية والدينية. ولهذه القيم مكانة في غاية الأهمية خاصة في دول مجلس التعاون الخليجي، التي تحتضن مجموعات سكانية متنوعة.

ويتضمن النهج الحقيقي لدورة الحياة 3 مراحل أساسية من الحوكمة، أولها مرحلة البحث والتطوير، حيث ترسي هذه المرحلة الأسس القانونية والأخلاقية للذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية منذ البداية؛ ففي دولة قطر، على سبيل المثال، عملت جامعة حمد بن خليفة بالتعاون مع وزارة الصحة العامة في دولة قطر على وضع "الإرشادات والتوجيهات البحثية لتطوير الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية". وتشجع هذه الإرشادات المطورين على اتباع عمليات مفصلة وتوثيق الهدف من دمج أنظمة الذكاء الاصطناعي، ونطاق عملها، واستخداماتها. والأهم من ذلك، يجب على الباحثين مراعاة الأخلاقيات والقوانين كالامتثال لقوانين حماية البيانات الطبية منذ البداية.

وأما المرحلة الثانية فتتطرق إلى الموافقة على الأنظمة، ففي حين لا تتطلب جميع أدوات الذكاء الاصطناعي المستخدمة في الرعاية الصحية الحصول على موافقات من الهيئات التنظيمية، إلا أنه يجب أن تتمتع الهيئات التنظيمية بصلاحيات أوسع نطاقًا لضمان استيفاء استخدام الذكاء الاصطناعي في قطاع الرعاية الصحية لمعايير السلامة الراسخة. وبينما تفتقر الجهات التنظيمية في جميع أنحاء العالم حاليًا إلى مثل هذه الصلاحيات، فقد بذلت المملكة العربية السعودية جهودًا قيمة من خلال أطرها التنظيمية، عبر نظام MDS-G010 للأجهزة الطبية القائمة على الذكاء الاصطناعي، تتفوق معايير الهيئة العامة للغذاء والدواء السعودية على الهيئات التنظيمية الأخرى، نظرًا لتضمنها معايير أخلاقية وبنودًا صريحة تتعلق بالخوارزميات التكيفية، والشفافية، والمراقبة اللاحقة للسوق. ومجددًا، لا يشمل هذا الأمر جميع أجهزة الرعاية الصحية القائمة على الذكاء الاصطناعي، ولكنه يكشف عن المجالات التي يمكن أن يتم فيها تطوير الحوكمة بشكل أفضل.

وتركز المرحلة الأخيرة للنهج على الاستخدام العملي للذكاء الاصطناعي. ويجب ألا تقتصر الضوابط والقوانين على الباحثين والمطورين فقط، بل يجب أن تشمل مقدمي الرعاية الصحية، وشركات التأمين، وأي كيان آخر يستخدم الذكاء الاصطناعي في هذا القطاع. ولتحقيق هذا الهدف، استحدثت كل من أبو ظبي ودبي سياسات تتعلق بالذكاء الاصطناعي تضم عناصر إلزامية تتعدى تقديم التوصيات وتركز على التدقيق والتحقق من فاعلية الذكاء الاصطناعي وآليات تقييم حالة المرضى.

دراسة حالة غير متوقعة

تعطي دول مجلس التعاون الخليجي الأولوية للذكاء الاصطناعي وتستثمر بسخاء لتطوير آفاق هذا المجال، بما في ذلك حوكمة الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية. وتحرز دولة قطر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة تقدمًا ملحوظًا في مختلف مراحل النهج الحقيقي لدورة الحياة وحوكمة الذكاء الاصطناعي، وإذا نظرنا إلى جهودهم الجماعية الحثيثة، نجد أنها تمثل نهجًا حقيقيًا لدورة الحياة وتغطي جميع جوانب مجال حوكمة الذكاء الاصطناعي.

والواقع أن دول مجلس التعاون الخليجي في وضع استثنائي يؤهلها لريادة هذا النهج كنموذج عالمي، فهذه الدول لديها أُطر حوكمة مركزية وكثافة سكانية متنوعة، لذا فهم يحتاجون إلى تقنيات تراعي الاختلافات الثقافية المتعلقة باللغة والدين وغيرهما؛ مما يعني احتمالية تماشي منظومة الحوكمة مع المعايير العالمية والاحتياجات المحلية - وهو نهج من المحتمل أن يُسترشد به في أفضل الممارسات العالمية بهذا المجال.

كما يجب أن يتذكر مطورو الذكاء الاصطناعي ومستخدموه في قطاع الرعاية الصحية أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد مشروع تكنولوجي، بل هو مشروع بشري. وبينما يقرر صانعو السياسات والمشرِّعون آليات إدارة هذه التكنولوجيا، يرسم النهج الحقيقي لدورة الحياة خارطة الطريق المبدئية ويعزز المناقشات حول أفضل الطرق لإدارة هذه التكنولوجيا مع التركيز على المرضى.

* هذا المقال من تأليف: الدكتور باري سليمان، أستاذ مساعد في القانون والعميد المشارك للشؤون الطلابية في كلية القانون بجامعة حمد بن خليفة. 

*تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفه، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبّر عن الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.


دور الوسائل البديلة لتسوية المنازعات وحماية الملكية الفكرية في تحقيق رؤية قطر الوطنية

14 أكتوبر 2025
لقراءة المزيد

التقريب بين العوالم القانونية: أهمية التعاون بين كليات القانون العربية والأمريكية

14 أكتوبر 2025
لقراءة المزيد

أهمية الاستثمار في القطاع الخاص لإحداث تحول عادل في مجالات الطاقة بأفريقيا

30 ديسمبر 2024
لقراءة المزيد

هل حان الوقت لإلزام شركات الخليج بالإفصاح عن بياناتها المناخية؟

31 يوليو 2024
لقراءة المزيد

قصص نجاح خريجي جامعة حمد بن خليفة: أحمد الأحمد – كلية القانون

14 يوليو 2024
لقراءة المزيد

تكميم الأفواه في فلسطين تهديدٌ لحرية الإعلام

02 مايو 2024
لقراءة المزيد

المحاكم الدولية والقضية الفلسطينية: ما الفرق بين محكمة العدل والمحكمة الجنائية؟

07 فبراير 2024
لقراءة المزيد