بدأ الناس باستخدام كلمة "غير عقلاني" للإشارة إلى الذكاء الاصطناعي. وفي مقابلة حديثة له مع قناة بي بي سي نيوز، صرّح ساندر بيتشاي، المدير التنفيذي لشركة Alphabet، بأن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي "ينطوي على عناصر غير عقلانية"، ولا يعكس وصفه هذا جدية الواقع.
وتلتزم شركة OpenAI، إحدى أبرز الشركات الناشئة والرائدة لثورة الذكاء الاصطناعي، باستثمار 1.4 تريليون دولار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، أي ما يقارب 200 دولار لكل إنسان على وجه الأرض. كما حذّرت الشركة من أنها ستواصل تكبد الخسائر حتى عام 2028 على الأقل، ويمثل هذا مخاطرة ضخمة، ليس فقط على مستثمرين وإنما على الاقتصاد العالمي بأكمله، نظرًا لكون نحو 20% من سوق الأسهم الأمريكية مملوك لـ "أجانب"، وأنّ الاستثمارات تتجه بشكل متزايد نحو الذكاء الاصطناعي. ولقد أصبح بقاء الاقتصاد العالمي أو انهياره مرتبطًا الآن بنجاح شركة ناشئة أمريكية واحدة.
الجانب الإيجابي والسلبي
لا شكّ في أنّ الذكاء الاصطناعي عمومًا، والذكاء الاصطناعي التوليدي على وجه الخصوص، يمثّلان نقطة تحول كاملة. فعلى الرغم من المخاوف المتعلقة بـ "الهلوسة" وقابلية الوقوع في الأخطاء، أصبحت أدوات الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية ويتم استخدامها بكثرة في العمل، ووقت الراحة، والترفيه؛ فالذكاء الاصطناعي ممتع، على الأقل في الأنشطة منخفضة المخاطر، فعلى سبيل المثال، هل ترغب في صنع شوكولاتة داكنة في المنزل باستخدام السكر البني بدلًا من السكر الأبيض؟ ستقدم معظم أدوات الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك "فنار"، نموذج الذكاء الاصطناعي العربي القطري، إجابة شبه مثالية لهذا السؤال وغيره.
ولكن في المقابل، يتم استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في أنشطة قد تنطوي على مخاطر عالية، فقد شهدت المنصات زيادة في طلبات الحصول على النصائح الطبية، ما يعكس أنّ العديد من المستخدمين يجدون هذه الأدوات أكثر تعاطفًا من الأطباء. كما تم اتهام ChatGPT بتشجيع أحد المستخدمين على الانتحار، وعلى الرغم من أن هذه النتيجة تشير إلى خلل كبير في جوانب السلامة، إلا أن مسيرة الذكاء الاصطناعي تظل مستمرة دون إظهار أي كلل أو بوادر توقف.
عالي التكلفة، ولكن مطمئن؟
يشير الاعتقاد السائد إلى أن بناء أدوات الذكاء الاصطناعي يعتبر أمرًا مكلفًا للغاية، ويعتمد على توفر بنية تحتية حاسوبية متطورة، وكميات كبيرة من البيانات، وقوى عاملة ماهرة. وغالبًا ما يُنظر إليه على أنه خارج متناول العديد من الدول، خاصة في دول الجنوب العالمي؛ إلا أن هذا صحيح جزئيًا فقط، فعلى الرغم من اعتماد الذكاء الاصطناعي على بيانات عالية الجودة وبنية تحتية مناسبة، إلا أنه لا يجب أن يكون "متطورًا".
ولا نحتاج أيضًا إلى جيش من مهندسي الذكاء الاصطناعي لابتكار حلول فعّالة؛ بل يكفي توفر عدد من العاملين المؤهلين والقادرين على تكييف الشيفرات البرمجية. فالابتكار الحقيقي في مجال الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون مدروسًا ومحدودًا ويركز على تحديد المجالات المتخصصة التي يمكن أن تضفي عليها تطبيقات الذكاء الاصطناعي قيمة ومزايا تنافسية. وبعبارة أخرى، يمكن للمقاربات الأكثر اقتصادًا في تطوير الذكاء الاصطناعي أن تدفع عجلة الابتكار، كما أثبتت الصين ذلك مرارًا، لاسيما من خلال نموذجها الشهير Deepseek.
يتوقف كل شيء على البيانات
هناك الكثير من اللغط حول نماذج الذكاء الاصطناعي، وذكائه الخارق، ولحظة "التفرد" التي سيبدأ فيها الذكاء الاصطناعي بتطوير نفسه ذاتيًا دون أي تدخل بشري. وهذه في الغالب دعاية ترفيهية لا أكثر. ويجدر الإشارة إلى أن نماذج الذكاء الاصطناعي الحالية هي عبارة عن "أدوات تكمل الجمل"، ومن غير المرجح أن تكتشف بنفسها شيئًا ثوريًا. ومن الممكن أن تساعد في اكتشاف جزيئات جديدة محتملة للأدوية، لكنها لن تقود إلى تغيير جذري في الطب.
لذا، ينبغي أن تعطى الأولوية للبيانات بالدرجة الأولى، ويجب على المؤسسات والدول حماية بياناتها بحذر، وإجراء تجارب صغيرة لاختبار كيف يمكن دمج بياناتها الداخلية مع نماذج الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر التي تعمل على أجهزة منخفضة التكلفة نسبيًا؛ فعلى سبيل المثال، لسنا بحاجة إلى أحدث إصدار من آيفون 17 لتجربة المهام الداخلية؛ فوجود جهاز أقدم بثلاثة أجيال يفي بالغرض. وتستخدم بعض المؤسسات الأكاديمية، ومن بينها جامعة حمد بن خليفة في قطر، أجهزة حاسوب اشترتها في عام 2018 لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الصغيرة والفعّالة.
المكاسب الإنتاجية
ومثال آخر على ذلك، تواجه إحدى الشركات المحلية مشاكل مستمرة بسبب التآكل، حيث تؤدي الحرارة، والرطوبة، والملوحة إلى تقليل العمر الافتراضي للبنى التحتية. وتُجرى معظم فحوصات التآكل حاليًا بشكل يدويًا. وللتصدي لذلك يمكن للشركة البدء بحلّ المشكلة من خلال جمع صور الأسطح المتآكلة وتحليلها بمساعدة خبرائها الداخليين، ومن ثم الاستفادة من نموذج ذكاء اصطناعي مفتوح المصدر وخفيف الوزن لتصنيف أنواع التآكل، حيث يمكن تدريب النموذج على محطة عمل مزودة بوحدة معالجة رسومية (GPU) منخفضة التكلفة، بواسطة مهندس واحد مختص في مجال الذكاء الاصطناعي.
كما سيتم توزيع التكلفة من حيث البيانات، والكوادر البشرية، والأجهزة بالترتيب 10:4:1؛ أي مقابل كل ريال يُنفق على الأجهزة، ستكون تكلفة العاملين أربعة ريالات، في حين ستقدر تكلفة البيانات بعشرة. وقد تبلغ المكاسب الإنتاجية نحو خمسة أضعاف وسيتم تقليل الانبعاثات الكربونية على المدى الطويل بشكل ملحوظ. ويمكن تحقيق كل ذلك اليوم دون ضجة وبنتائج ملحوظة.
إن الدروس المستفادة واضحة: حدّد المهمة المناسبة للذكاء الاصطناعي، اجمع البيانات العالية الجودة، وفّر خيار وحدة معالجة رسومية (GPU) منخفضة التكلفة، وأعد تأهيل موظفي تقنية المعلومات المحليين لتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي؛ الأمر بهذه البساطة حقًا!
* هذا المقال من تأليف الدكتور سانجاي تشاولا، كبير العلماء في معهد قطر لبحوث الحوسبة بجامعة حمد بن خليفة.
* تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفه، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.