استحوذ الذكاء الاصطناعي على خيالنا الجماعي، واعدًا بإحداث ثورة في مجالات البحث العلمي، والرعاية الصحية، والتعليم، والطب. كما نشرت أخبار تتصدرها عناوين رئيسية جذابة، مثل: الذكاء الاصطناعي يبتكر علاجات جديدة خلال أشهر عوضًا عن سنوات، والخوارزميات تكشف أسرار الشبكات العصبية، والتعلم الآلي يختصر العملية العلاجية من المختبر إلى المريض.
ويتبع هذا الحماس نمطًا مألوفًا، فعند إطلاق أي تقنية جديدة عادة ما يصاحب ذلك حالة من الابتهاج، والصخب الإعلامي، والمبالغة إلى حين تقديم تقييم واقعي؛ وخير مثال على ذلك هو التنبؤ الأخير لإيلون ماسك بأن الذكاء الاصطناعي سيتجاوز متوسط الذكاء البشري بحلول عام 2026 وسيتفوق على كل الذكاء البشري بحلول عام 2030. إن مثل هذه التصريحات، رغم أنها تجذب الانتباه، فإنها غالبًا ما تعكس طموحات وادي السيليكون أكثر من كونها إجماعًا علميًا حول وتيرة تقدم الذكاء الاصطناعي.
أين يحقق الذكاء الاصطناعي نتائج حقيقية؟
ساهم الذكاء الاصطناعي خلال جائحة كوفيد-19 في تحديد الأدوية الواعدة وعمل على تسريع برامج تطوير اللقاحات. كما فحصت النماذج اللغوية الكبيرة ملايين الأوراق البحثية لتحديد الروابط العلاجية المحتملة التي قد يحتاج الباحثون سنوات لاكتشافها.
أما في مجال علوم الأعصاب، فإنه يتم استخدم الذكاء الاصطناعي لفك شفرات الإشارات الدماغية لدى المرضى المصابين بالشلل، لتمكينهم من التحكم في مؤشرات الحاسب والأذرع الروبوتية بدقة غير معهودة. وتعمل واجهات الدماغ والحاسب المدعومة بالتعلم الآلي على ترجمة النشاط العصبي إلى نص، لتصبح صوتًا للمرضى الذين فقدوا القدرة على الكلام. كما يستخدم الباحثون الذكاء الاصطناعي لرسم خرائط الدوائر العصبية بدقة متناهية وتقديم محاكاة للشبكات الدماغية التي كان يتعذر نمذجتها نظرًا لتركيبها المعقد.
وفي علم الأحياء الهيكلي، أحرز الذكاء الاصطناعي تقدمًا ملحوظًا في التنبؤ بهياكل البروتين، الأمر الذي أثّر بشكل كبير على عملية ابتكار الأدوية. ويمكن الآن لبرنامج AlphaFold التابع لشركة Google DeepMind التنبؤ بآلية طي البروتينات بدقة مذهلة، مما أدى إلى حل لغز حير العلماء لعقود. وهذا أمر في غاية الأهمية، لأن فهم بنية البروتينات أمر أساسي لتطوير علاجات جديدة للأمراض البشرية.
وفي مجال ابتكار الأدوية، فنحن نشهد تقدمًا ملموسًا، حيث حققت شركات مثل Exscientia إنجازًا تاريخيًا من خلال مشروع DSP-1181، وهو أول دواء تم تصميمه بالذكاء الاصطناعي واستخدم في التجارب السريرية لعلاج اضطراب الوسواس القهري. وأصبحت In-silico Medicine أول شركة تنتج دواء تم تصميمه بواسطة الذكاء الاصطناعي لعلاج تشخيص تم اكتشافه من خلال استخدام ذات التقنية في التجارب السريرية، وهذا "إنجاز مزدوج" إذ تولى الذكاء الاصطناعي تشخيص الحالة وابتكر العلاج. كما استخدمت شركات أخرى، مثل Recursion Pharmaceuticals، الذكاء الاصطناعي لتحديد أهداف دوائية جديدة وتطوير مرشحين مثل REC-1245 لعلاج الأورام الصلبة ابتداء من مرحلة الاكتشاف وحتى مرحلة التجارب قبل السريرية في غضون 18 شهرًا فقط، أي أقل من نصف المدة الزمنية المعتادة.
ولكن ما تغفل عنه التغطية الإعلامية المهولة هو أن هذه مجرد تحسينات تدريجية لمشكلات محددة، وليست تحولًا شاملًا في الطب كما يروج لها أصحاب رأس المال الاستثماري والمبتكرون التقنيون.
الضجة الإعلامية وما يترتب عليها
جذب قطاع ابتكار الأدوية بالذكاء الاصطناعي استثمارات تقدر بمليارات الدولارات، وتم وعد الشركات الناشئة بتحويل تطوير الأدوية من عملية طويلة وغير مؤكدة إلى شيء يشبه هندسة البرمجيات التي تتسم بالقدرة على التنبؤ والمنهجية والسرعة، وسرعان ما جمعت شركات مثل Insitro 700 مليون دولار لتمويل المشاريع الناشئة، بينما حصلت مئات الشركات الناشئة الأخرى في هذا المجال على مليارات إضافية. وتخلق هذه الضجة ما أسماه أحد الباحثين في مجال الأدوية "FOMO"، أي "الخوف من تفويت الفرص"، واصفًا صانعي القرار الذين يخشون أن يُتركوا خلف الركب إذا لم يواكبوا أحدث مستجدات الذكاء الاصطناعي.
وتكمن المشكلة الحقيقية في المبالغة بتقدير الذكاء الاصطناعي وخلق توقعات غير واقعية، فعندما يسمع أحد المدراء التنفيذيين في مجال صناعة الأدوية بأن الذكاء الإصطناعي "سيحل جميع مشاكلنا"، فإنه يتوقع المعجزات؛ في حين أنه على أرض الواقع يوجد حوالي 20 دواءً تم ابتكارهم باستخدام الذكاء الاصطناعي وهم الآن قيد مرحلة التجارب السريرية، ولم يحصل أي منهم على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية بعد. وعندما يفند الواقع هذه المبالغات، ويُظهر أن الذكاء الاصطناعي يساعد في إنجاز مهام محددة ولا يحدث ثورة في كافة المراحل، فإن ذلك يتسبب في تأجيج خيبات الأمل والإحباط، كما قال أحد علماء الكيمياء الحسابية: "أخرج عصاي السحرية في كل مرة يذكر فيها شخص ما التعلم العميق".
وهذا الإحباط لا ينم عن مشاعر مجروحة فقط، بل يمكن أن يؤخر تقدم المجال بأكمله، فلقد شهدت صناعة التكنولوجيا هذا النمط من قبل، وتحديدًا ما يعرف بـ "شتاء الذكاء الاصطناعي" في فترة السبعينيات والثمانينيات عندما فشل الذكاء الاصطناعي آنذاك في الوفاء بالوعود المبالغ فيها، مما أدى إلى تخفيضات تمويلية كبيرة استمرت لعقود. ويخشى الباحثون تكرار حدوث ذلك، الأمر الذي سيتسبب في انخفاض التمويل، والتخلي عن التطبيقات الشرعية، وتلاشي الضجة الإعلامية.
التحقق العلمي من واقعية الأمور
تبرز قدرات الذكاء الاصطناعي في حال تم مده بمجموعات كبيرة من البيانات عالية الجودة وذات أنماط واضحة يسهل التعرف عليها. وتوافق هياكل البروتين هذه الشروط تمامًا، حيث تتضمن 20 حمضًا أمينيًا فقط، ولها قواعد وأنماط يمكن التنبؤ بها، وهذا هو السبب وراء الأداء الجيد لمشروع AlphaFold.
وأما بالنسبة لابتكار أدوية للجزيئات الصغيرة فهي عملية أكثر تعقيدًا. فالكيمياء علم واسع، والبيانات فيه غالبًا ما تكون غير متسقة أو خاطئة، فضلًا عن الدور المحوري للعوامل البشرية، أو كما قال أحد الخبراء بالمجال، فإن مؤلفات الكيمياء العضوية التركيبية فوضوية ومليئة بالتحيزات وعدم الدقة، ويمكن أن تتعلم نماذج الذكاء الاصطناعي كل ذلك من غير قصد.
إن أهم تحديات مجال ابتكار الأدوية تكمن في اختيار الأهداف الصحيحة وتوقع السميّة البشرية، ومع ذلك تظل هذه التحديات إلى حد كبير خارج نطاق الذكاء الاصطناعي الحالي. وتُقصي هذه المشكلات معظم برامج الأدوية، وتتطلب نوعًا من البصيرة البيولوجية والتفكير الإبداعي الذي لم يتقنه الذكاء الاصطناعي بعد.
وفي علوم الأعصاب، يقدم الذكاء الاصطناعي إمكانيات قيمة لنمذجة نشاط الدماغ وفهم الشبكات العصبية، حيث يقوم الباحثون بتدريب أنظمة التعلم الآلي على مجموعات بيانات ضخمة لخرائط التوصيلات الدماغية والتسجيلات العصبية، على أمل محاكاة وظائف الدماغ بطرق لا تستطيع النماذج الرياضية التقليدية تحقيقها.
ولكن الدماغ يمثل تحديات فريدة، فعلى عكس البروتينات فإن الشبكات العصبية تتغير بشكل مستمر للغاية بين الأفراد، في وقت يتعين فيه أن تكون البيانات المستخدمة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي متماثلة العينات، إذ لا يمكن أن يتم دمج خرائط التوصيلات الدماغية لحيوان ما مع تسجيلات النشاط العصبي لحيوان آخر. ويخلق هذا العديد من المشاكل اللوجستية ويحد من نطاق ما هو ممكن حاليًا.
التطلعات المستقبلية
من المرجح أن تفصل السنوات الخمس القادمة بين الشركات الناجحة والفاشلة في مجال ابتكار الأدوية باستخدام الذكاء الاصطناعي، حيث ستحقق بعض الشركات نجاحات ساحقة، بينما ستغير شركات أخرى توجهاتها أو تغلق. ومن المرجح أن تنجح الشركات مثل Exscientia و Recursion، لأنها تركز على مشاكل محددة مثل تصميم الأدوية أو تحديد الأهداف، أكثر من الشركات الناشئة الأخرى التي تعد بحل جميع مشاكل ابتكار الأدوية دفعة واحدة.
وعلى سبيل المثال، يجب أن نتوقع أن تحصل أول أدوية مصممة بالذكاء الاصطناعي على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية خلال السنوات القليلة القادمة، نظرًا لكون حوالي 20 دواءً منها في مراحل مختلفة من التجارب السريرية حاليًا. ومع ذلك، سيظل معدل الفشل مرتفعًا، ويرجح أن تكتشف معظم شركات ابتكار الأدوية بالذكاء الاصطناعي أن خوارزمياتها تعمل بشكل أفضل لتشخيص بعض الأمراض دون غيرها، الأمر الذي سيجبرها على تضييق نطاق تركيزها وعملها.
وفي مجال البحوث المتعلقة بالدماغ، يجب أن نتوقع إحراز تقدم مستمر في مجالات محددة مثل واجهات الدماغ والحاسب للمرضى المصابين بالشلل وتصميم نماذج حاسوبية أكثر كفاءة للدوائر الدماغية البسيطة. ويبدو الذكاء الاصطناعي واعدًا لمعاجلة الحالات التنموية مثل الشلل الدماغي والتوحد. وبالنسبة للشلل الدماغي، يطور الباحثون أنظمة تحليل المشي المدعومة بالذكاء الاصطناعي التي من شأنها أن تساهم في تحسين خطط العلاج الطبيعي والتنبؤ بالعلاجات الأنسب لكل مريض. كما قد تساعد واجهات الدماغ والحاسب الأفراد من ذوي الإعاقات الحركية في التحكم بالأجهزة المساعدة بشكل أكثر تلقائية.
وأما بالنسبة لاضطراب التوحد، فإنه يتم تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي للكشف عن العلامات المبكرة من خلال تحليل فيديوهات تظهر سلوك الرضع، مما قد يتيح فرصة للتدخل المبكر. كما يتم اختبار تطبيقات مدعومة بالذكاء الاصطناعي لتعزيز تدريبات المهارات الاجتماعية والتواصل، ولكنها لا تزال قيد التجربة. ومع ذلك، فإن ابتكار العلاجات الثورية للأمراض الدماغية المعقدة مثل الزهايمر أو انفصام الشخصية ستستغرق وقتًا أطول بكثير، فالدماغ البشري ليس حاسوبًا، ومعاملته وفق هذا المفهوم ستواجهه بعض العقبات.
والأهم من ذلك، أننا على الأرجح سنشهد مراجعة واقعية للتوقعات، وستتوقف الشركات عن الادعاء بأنها تستطيع إحداث ثورة في المجال الطبي بأكمله، وستبدأ في التركيز على حل المشكلات المحددة بشكل جيد. كما سيصبح المستثمرون أكثر حذرًا فيما يتعلق بتمويل الشركات التي تعمل على استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال الصحي. وستتلاشى موجة التسويق الحالية التي تفيد بأن "الذكاء الإصطناعي سيحل كل شيء"، وسيتم إفساح المجال لمناقشات أكثر صراحة وشفافية حول ما يمكن للذكاء الاصطناعي القيام به.
الطريق إلى الأمام
الذكاء الاصطناعي ليس حلًا سحريًا لأكبر التحديات الطبية، ولكن يمكن استخدامه بشكل استراتيجي لحل المشكلات التي تتوافق مع مزاياه ومتطلباته مع وضع توقعات واقعية حول ما يمكن أن ينجزه.
ومن المرجح أن يتم إنتاج تطورات طبية قيمة تنبثق من نهج هجين يجمع بين الذكاء الاصطناعي والأساليب العلمية التقليدية ويستفيد من نقاط القوة لكل منهما، عندها سيُنظر إلى الذكاء الاصطناعي على أنه أداة قوية وجديدة في مجموعة أدوات الباحثين، وليست بديلًا للرؤية، والخبرة، والإبداع البشري.
ولا تكمن الوعود المنتظرة لاستخدامات الذكاء الاصطناعي في مجال الطب في قدرته على استبدال العلماء البشر، بل في قدرته على تعزيز الذكاء البشري ومساعدتنا في استنباط الأنماط التي قد نتغاضى عنها. وهذه رؤية أكثر تواضعًا وواقعية من الوعود الجوفاء لوادي السيليكون، ولها قيمة أكبر عند المرضى الذين ينتظرون ابتكار علاجات جديدة.
* هذا المقال من تأليف: الدكتور محمد فرحان، الأستاذ المشارك في كلية العلوم الصحية والحيوية بجامعة حمد بن خليفة.
* تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفه، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.
أخبار مشابهة