العلم في مواجهة الأيديولوجيا: ضرورة المشاركة الاجتماعية للعلماء
Hamad Bin Khalifa University

الإنسان العلم في مواجهة الأيديولوجيا: ضرورة المشاركة الاجتماعية للعلماء لاحتواء جائحة كورونا

بقلم: د. ديبورا بروسنان ود. جيمس بوهلاند ود. أندرياس ريتشكيمر

كشفت جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19) الذي تفشى في جميع أنحاء العالم في الآونة الأخيرة عن حالة من غياب الاستعداد لدى العديد من البلدان وعدم قدرتها على إدارة المخاطر المعقدة بكفاءة وغياب المرونة المجتمعية. يكمن أحد الأبعاد المهمة لهذا الخلل الخطير في الانقسام الحاد بين أولئك الذين يعتقدون بأهمية العلم لصياغة السياسات واتخاذ الإجراءات وأولئك الذين يقوضون أو يقللون من قدر العلم أو يرفضونه عندما لا يتفق مع وجهات نظرهم وأجنداتهم. وقد تجلى هذا الانقسام في أشكال عديدة من خلال رفض ارتداء الأقنعة، والإلحاح على أن فيروس كورونا ما هو إلا خدعة أو صنيعة افتعلها بيل جيتس أو الجيش الصيني، أو نشر الأخبار غير الصحيحة حول "أنظمة العلاج" وأنها غير مختبرة مسبقًا أو مميتة. يغذي هذا الانقسام خطاب السياسيين وجماعات المصالح الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي؛ للترويج لادعاءات غير علمية أو الهجوم على العلم من أجل الترويج لأجنداتهم السياسية، ولا يعيرون اهتمامًا كافيًا بما إذا كان يمكن أن يؤدي ذلك إلى تعزيز مرونة المجتمع أو هشاشته أو انهياره.

تُعرّف هذه القضايا التي كانت موجودة على مدار التاريخ بوجه عام على أنها "العلم في مواجهة الأيديولوجيا". وقد أشار مؤرخو العلوم إلى المعركة التي خاضها العالِم جاليليو مع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، والمناظرات التي دارت حول التطور الدارويني، والحجج بشأن التطعيم المتكرر، وحملة ليسينكو ضد علم الوراثة، أو أزمة الإيبولا الأخيرة، كحالات اصطدمت فيها الحقائق العلمية، بشكل كارثي في بعض الأحيان، مع القيم الثقافية أو  المعتقدات الشخصية أو القناعات السياسية. ومجددًا، تتوقف سلامة المواطنين ومشروعية مؤسساتنا وصلاحية هياكلنا الاجتماعية والاقتصادية على كيفية تعاملنا مع هذا الاستقطاب الحاد والخطير. فإذا تُركت هذه القضايا دون حل في الوقت الحالي، فسوف تتفاقم وتكبر باعتبارها حواجز هائلة تقف أمام المعالجة الناجعة لهذه الأزمات الوجودية التي تهدد الحاضر والمستقبل، مثل جائحة كوفيد-19 أو حتى الجائحة التالية لها أو ظاهرة تغير المناخ.

إن نهج إبعاد العلم عن النقاش العام لأنه يجب أن يظل مصدرًا مستقلاً للمعرفة لن ينجح رغم النوايا الطيبة إن وجدت. ويتعين بالتأكيد أن تظل المخرجات العلمية غير ملوثة وغير متأثرة، ومع ذلك، فإن العلماء هم مواطنون وجزء من مجتمعاتهم. إن إشراك العلماء في نقاش واعٍ ومخلص يتسم بقيم الرحمة داخل المجتمع من خلال عملية التعلّم الاجتماعي لهو أمر بالغ الأهمية.

ولكي يكون هذا النقاش فعالاً، يجب أن يبدأ بفهم أعمق للعلم وتعزيز التواصل بشكل أكثر فعالية حول مخرجات العلم. إن العلم عملية مصممة بغرض الحد من عدم اليقين وتحديد المخاطر التي تواجهها الإنسانية. هذه هي العناصر التي نحتاج إلى فهمها من أجل إدارة جائحة ما أو التهديدات المرتبطة بظاهرة التغير المناخي. كما يستفاد من الفحوصات والاختبارات في اقتراح الأفكار أو الفرضيات العلمية وتحديها بشكل متكرر. في النهاية، وعلى أساس الأدلة، يتم رفض الأفكار أو قبولها وتنقيحها بشكل مستمر. هذه الطبيعة الديناميكية للعلم وهو دائمًا"عُرضة للتشكيك" هي التي دفعت المعرفة إلى الأمام. وبطبيعة الحال، ربما يتم دحض حقائق اليوم واستبدالها بحقائق جديدة في الغد.

يوفر هذا الجانب المتطور من العلم مع الأسف فرصًا لذوي التوجهات الشعبوية وخصوم آخرين لانتقاء "الحقائق" التي تعكس قناعتهم بشكل انتقائي، أو رفض الأدلة العلمية بشكل إجمالي، نتيجة لما يبدو متناقضًا أو غير ثابت ومبرهن. على سبيل المثال، أدت المعرفة المحسنة حول كيفية انتشار فيروس كورونا إلى قيام منظمة الصحة العالمية بتغيير توجيهاتها بشأن استخدام الأقنعة. ورأى الكثيرون أن هذا ليس تقدمًا سريعًا يبشر به العلماء، ولكنه دليلٌ على الارتباك وعدم الاتساق العلمي. وقد وفر  ذلك فرصة مثالية لجماعات المصالح للاحتجاج على استخدام الأقنعة ورفض الأدلة العلمية المتعلقة بها.

في المقابل، وبعد تسعة أشهر من تفشي الجائحة، يرى معظم العلماء أن هذا الوقت يمثل العصر الذهبي للإنجازات السريعة في المعرفة والتكنولوجيا القابلة للتطبيق. إننا نشهد نهجًا علميًا عالميًا متضافرًا غير مسبوق للتغلب على فيروس كوفيد-19، بما في ذلك تطوير لقاحات فعالة لعلاج المرض. ويشعر العديد من العلماء بالحيرة والتخبط تجاه ما يرون أنه رفض للحقائق العلمية من قبل بعض شرائح العامة وبعض الشخصيات السياسية. ومع ذلك، ينظر الكثيرون إلى سياسات مثل عمليات الإغلاق وارتداء الأقنعة بشكل إلزامي، في حين أنها فعالة في احتواء الفيروس على المدى القصير، على أنها قمعية، نتيجة لما يواكبها من ثمن باهظ، بما في ذلك البطالة والانهيار الاقتصادي المتلاحق في جميع أنحاء العالم. وتعتبر سياسات الاستجابة ورد الفعل غير مستدامة حتى عندما تستند إلى العلم، سواء في حالة وباء ما أو في ما يتعلق بإدارة ظاهرة مثل تغير المناخ. وتتطلب الحلول طويلة الأجل التزامًا بالاستثمار في الوقاية والتأهب وبناء القدرة على الصمود والمرونة. من هنا، يجب أن يشمل ذلك إعادة ترتيب عمليات الشد والجذب بين العلم والمعتقدات الأيديولوجية.

يعد التعلم الاجتماعي أحد الأدوات التي يمكن أن تساعدنا في معالجة هذه الحالة من الشد والجذب ويمكن أن تقودنا نحو مستقبل أكثر مرونة. يعرف التعلم الاجتماعي بأنه عملية تعليمية معرفية تحدث في سياق اجتماعي. ولمعالجة الأزمة الناتجة عن هذه الجائحة والتهديدات العالمية الأخرى مثل تغير المناخ، يجب أن يشمل السياق هنا العلماء والمواطنين وصناع السياسات الذين يعملون معًا. فمن خلال التعلم من بعضنا البعض، يمكننا تطوير حلول صارمة من الناحية العلمية، يتشارك الجميع في إنتاجها، وبالتالي يتم دمجها في قيم المجتمع لتخدم الوفاء باحتياجاته.

وسواء كان الأمر يتعلق بجائحة كوفيد-19 أو بتغير المناخ، فإن التواصل والمشاركة العلمية من خلال التعلم الاجتماعي يوفران مسلكًا للخروج من الفجوة الواقعة بين العلم والأيديولوجية، وهو نهج يجب تبنيه على وجه السرعة. لا شك أننا ليس لدينا الكثير من الوقت لنضيعه لأن مستقبل الإنسان وكوكب الأرض على المحك. ويجب أن يكون جميع الأطراف على استعداد للقيام بشيء ما جديد، أي الانخراط في عملية تعلم جماعي من أجل مزيد من القدرة على الصمود والمرونة في مواجهة الأزمات.

الدكتورة ديبورا بروسنان رئيس ومؤسس ديبورا بروسنان وشركاه للحلول البيئية وأستاذ مساعد في العلوم البيولوجية بجامعة فرجينيا للتقنية.
البروفيسور جيمس بوهلاند أستاذ فخري بكلية الشؤون العامة والدولية بجامعة فيرجينيا للتقنية.
البروفيسور أندرياس ريتشكيمر أستاذ السياسة العامة بجامعة حمد بن خليفة، قطر ، وأستاذ منتسب للأبعاد البشرية للموارد الطبيعية بجامعة ولاية كولورادو.

 

أخبار متعلقة

مسارات التحول في خضم الأزمات - العلم والتعلم الاجتماعي وتمكين المواطن عوامل أساسية

تزامن مقالنا الأخير الذي دعا إلى عقد اجتماعي جديد وأعقبه أحداث عالمية مهمة مثل الإعلان عن إمكانية توفر لقاح فعال قبل نهاية هذا العام من ناحية، وترقب نتائج الانتخابات الأمريكية من ناحية أخرى.

كلية السياسات العامة تشارك في منتدى لمناهضة التطرف

يعيش العالم مرحلة استثنائية في ظل الظروف الحالية والمستمرة. ونظرًا لتطوّر السياق العالمي بوتيرة متسارعة، أدت جائحة كورونا (كوفيد-19) إلى صعود التطرف والعنف، وأوجدت حالة من الديناميكيات الصعبة، مثل التوترات الدينية والعرقية، وقضايا الصحة العقلية، والعنف الأسري، وكلها قضايا تحتاج إلى معالجة.