في هذا العالم المتغيّر الذي يشوبه العديد من أوجه غياب اليقين التي تغذيها جائحة كورونا (كوفيد-19)، باتت صناعة السياسات أكثر صعوبة على مستوى الأفراد والمؤسسات، والأهم من ذلك الحكومات. يتناول الدكتور أندرياس ريكمر، الأستاذ بكلية السياسات العامة، الحاجة إلى تجديد العقد الاجتماعي لحقبة ما بعد جائحة كوفيد-19. ويتطرق المقال بإسهاب إلى سلسلة حديثة من مقالات الرأي، التي يشارك المؤلف في كتابتها بالتعاون مع الدكتورة ديبورا بروسنان والدكتور جيمس بوهلاند لتنشر في جريدة "Fair Observer".
لم تتسبب جائحة كوفيد-19 العالمية فقط في قلب حياتنا المعتادة رأسًا على عقب، بل كشفت أيضًا عن عدم استعداد العديد من الحكومات وعدم قدرتها على التعامل مع المخاطر الكبيرة والمعقدة أو إدارتها بفاعلية لضمان مرونة المجتمعات. فبعد مرور عقدين من القرن الحادي والعشرين ودخولنا عصرًا آخرًا يسميه علماء المناخ والجيولوجيون على حد سواء عصر "طغيان التأثير البشري على التركيبة الجيولوجية والبيئية"، باتت هذه الرؤية المتعمقة والواقعية مصدر قلق بالغ. ذلك أن الأوبئة، والاحتباس الحراري العالمي، وارتفاع مستوى سطح البحر، والفيضانات والجفاف، والظواهر الجوية القاسية، والصراعات، والهجرة القسرية، وغياب خدمات النظم البيئية الحيوية، وكلها تأخذ في الازدياد. وغالبًا ما تضرب هذه الظواهر البلدان والمجتمعات التي تعاني بالفعل من الأزمات الاقتصادية، وعدم الاستقرار السياسي، والفقر، وعدم المساواة، والظلم. وتتراكم هذه الظواهر والأحداث معًا ولتشكّل عاصفة كاملة يمكن أن تجتاح المؤسسات وصناع السياسات وتهدد المجتمعات بشكل جذري.
جاءت جائحة كوفيد-19 متزامنة مع توجه عالمي نحو مزيد من السلطوية والتضيق على الحريات المدنية، وهو توجه استمر لبعض الوقت قبل تفشي هذه الجائحة وانتشار الفيروس بفترة طويلة. ولا تعتبر التوجهات الشعبوية ونظريات المؤامرة وحملات التضليل والتطرف السياسي اليميني وصعود الحكومات المستبدة ظواهر جديدة. ومع ذلك، فإن تعقيداتها وسرعتها وشدتها واتساع نطاقها لم يسبق له مثيل، حيث أدت بالفعل إلى تدهور كبير في شرعية الحكم، ما من شأنه أن يهدد أساس الحضارة الإنسانية الحديثة. وفي خضم هذه المأساة التي تتكشف بمرور الوقت، قادتنا جائحة كوفيد-19 إلى فصل جديد، إن لم تكن هي نفسها ذروة هذه المأساة، فيبدو أنها تحفز وتعجل التوجهات الموجودة مسبقًا نحو إبطال العقد الاجتماعي الذي تقوم عليه الديمقراطيات الليبرالية وغيرها من أشكال الحكم الرشيد.
من هنا، تلوح في الأوفق الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد (العقد الاجتماعي المثالي يكون بين الأفراد مع بعضهم البعض، وبين المواطنين وحكوماتهم) في العديد من البلدان، لضمان بقاء الحكم الشرعي، وسيادة القانون، والأعراف الديمقراطية والتشاركية، والحريات المدنية، وكذلك الواجبات المدنية خلال حقبة تواكبها مخاطر عالمية متزايدة بصفة مستمرة. ويعد تحديد طبيعة هذه العقود وكيفية تطبيقها تحديًا ملحًا يواجه جميع المواطنين وصناع القرار خلال العِقد الحالي. وسوف يتطلب الأمر تحولات كبيرة في السلوكيات الاجتماعية والمؤسسية والفردية لمعالجة أزمات عصر "طغيان التأثير البشري" والتخفيف من حدتها، وبناء المرونة لمواجهة الأزمات على المدى الطويل. تمثل الأزمات العالمية الكبرى مثل جائحة كوفيد-19 مخاطر جسيمة، ويواكبها في نفس الوقت فرص متعددة. إنه الوقت المناسب لتجديد التصورات من أجل تحقيق الصالح العام على أساس مبادئ الصدق والمساواة والمسؤولية المشتركة والتضامن والشرعية.
إن مفهوم العقد الاجتماعي ركن أساسي من أركان الحوكمة الرشيدة. ومع ذلك، يرى البعض أنها قضية عفا عليها الزمن، ولا تتماشى مع الفكر الليبرالي الجديد في زمننا المعاصر، حيث ترتبط طبيعة الشروط التعاقدية بالمعاملات. ومع ذلك، فإن العلاقة بين المواطنين والحكومات التي تحافظ على المبادئ الشرعية والديمقراطية خلال أوقات الأزمات، سواءً كانت جائحةً أو مخاطر مرتبطة بظاهرة التغيّر المناخي، تتطلب فهم هذا "الرابط" الذي يجمعنا ببعضنا البعض كأمم تعيش على هذا الكوكب. وستعتمد الكثير من هذه الظواهر على قدرتنا على إعادة تأسيس هذا "الرابط". فإذا نجحنا في ذلك، فستكون النتيجة مجتمعًا أكثر مرونة، وإذا فشلنا، فسوف تسود الفوضى. وستشهد حقبة ما بعد الجائحة حاجة الحكومات وصناع السياسات إلى الاستثمار في تنمية هذا "الرابط" وإذا لم يفعلوا، فإنه الهلاك.